Feed Item

نشأ الخلق على فلسفة الثنائيات (polarity, dualism) المتلازمة بعضها مع بعض. فتعمل هذه الثنائيات وتتفاعل بآلية وجه العملة الواحدة. إذا حضر أحد أوجه هذه الثنائية/العملة أو تلك، غاب عنها الوجه الآخر لها، وهكذا دواليك. وهذه الثنائيات كثيرة في العدد لايمكن حصرها، بدأ من ثنائية الموت والحياة، مرورا بثنائية الكفر والإيمان، انتهاء بثنائية الجنّة والنار. لكن ما يهمُّنا في هذه المقالة هو ما يتعلّق بثنائية "الصحة والمرض"، وهذه الثنائية تعتبر من أهم واعقد الثنائيات التي ترافق الإنسان منذ وعْيه بنفسه إلى أن يموت، فهي شغله الشاغل الملازم له على مدار اللحظة الزمنية. كما أن هذه الثنائية (وجه العملة) استثمرت بطريقة معقّدة متداخلة لترسخ وتأسس لما يعرف اليوم بصناعة الرعاية الصحية التي تعتبر أكبر صناعة عرفها الإنسان منذ تواجده على وجه الأرض. وقد تشعّبت صناعة الرعاية الصحية لتشمل العلوم والمعارف المختلفة التي تهتم بالإنسان وما يحيط به من بيئات مختلفة، وما يختاره ويقرُّه أيضا من اختيارات وسلوكيات متباينة ومتضاربة احيانا، ومدى انعكاس هذه البيئات المختلفة، وكذلك الخيارات والسلوكيات اللحظية اليومية على صحته البدنية، والنفسية، والعقلية. وهذه الخيارات التي اختارها بنفسه أو بتأثير المحيط به أو السلوكيات التي سلكها بمحض ارادته أو بتأثير غيره عليه هو المسؤول الأول عن مآلاتها ونهاياتها الإيجابية منها والسلبية كذلك. أي هو المسؤول بقدر كبير عن مآلات هذه الخيارات والسلوكيات التي سلكها. 

كما تجدر الإشارة هنا إلى أننا ركّزنا في حديثنا هنا عن الفرد/الشخص فقط، لكن يمكن ان ينسحب هذا القول على المجتمعات أيضا. فثنائية الصحة والمرض التي تلازم الأفراد، يمكن لها أن تلازم المجتمعات أيضا. فكما أن هناك أسقام تصيب الأفراد، فهناك أسقام تصيب المجتمعات أيضا. وكما يمكننا التحدث عن صحة الفرد، يمكننا التحدث عن صحة المجتمع سواء بسواء. ولكل من الأفراد والمجتمعات آليات وطرق ومناهج لدراسة وجهي عملة ثنائية الصحة والمرض فيهما. ومن هذا المنطلق، ومن هذه الغاية نشأت صناعة الرعاية الصحية لتشمل المؤسسات والمعاهد التي تدرّس فلسفة الطب والعلاج ومعرفة الأمراض وتصنيفها وتشخيصها (كليات الطب والطب الموازي)، وتشمل أيضا مؤسسات الرعاية الصحية (المستشفيات المركزية والعيادات، ومعامل ومختبرات التحاليل، والصيدليات) التي من خلالها يتم مراقبة الأمراض ومكافحتها وعلاجها من أجل تمكين الناس من صحتهم وتعزيزها. وقبل هذا وذاك نشأت معاهد ومراكز البحث والتطوير والابتكار في مجال علوم الطب الحيوي، لتعمل كحدائق خلفية أو مطابخ يتم فيها دراسة الكون بأكلمة شاملا علوم الحياة (دراسات الكائنات الحية) وعلوم البيئة، وعلوم السلوك والاختيار للأفراد والمجتمعات لاستخلاص افكار، ومناهج علمية، وثقافة مجتمعية توعوية، وطرق، وأساليب، وآليات متنوعة غايتها الكبرى هي اخفاء وجه المرض والقضاء عليه مقابل استحضار وجه الصحة وترسيخه قياسا على وجهي عملة ثنائية الصحة والمرض - إذا جاز التعبير. 

ومن أكثر المشتغلين بهذه الثنائية على مستوى العالم هي منظمة الصحة العالمية (WHO)، وهي احدى المنظمات التابعة للأمم المتحدة، متخصّصة في مجال الصحة، وقد أنشأت تحديدا في 7 أبريل 1948م، ومقرُّها الحالي جنيف، سويسرا. وهي السلطة التوجيهة والتنسيقية في المجال الصحي، كما أنها مسؤولة عن لعب دور قيادي في معالجة المسائل والمشاكل الصحية العالمية. وبالرجوع إلى ثنائية الصحة والمرض، فقد تم تعريف الصحة من قبل المنظمة خلال إعلان مباديء الرعاية الصحية الأوّلية عام 1978م على أنها: "هي حالة من اكتمال السلامة البدنية والعقلية والاجتماعية وليس مجرد غياب أو انعدام للمرض أو العجز"، لكن هذا التعريف تعرّض لانتقادات كبيرة، مما دفع بالعديد من المنظمات الصحية الأخرى إلى استخدام تعريفات أخرى من بينها: "الصحة هي الحالة المتوازنة للكائن الحي والتي تتيح له الآداء المتناغم والمتكامل لوظائفه الحيوية بهدف الحفاظ على حياته ونموه الطبيعي". ودون الخوض في مسألة تعريف الصحة على الوجه الصحيح، أحببت أن ألفت انتباه القارئ الكريم إلى أن تعريف الصحة مرّ عليه الآن حوالي أربعة عقود، ولم يتم اعادة النظر فيه أو اعادة تعريفه من قبل منظمة الصحة العالمية بينما لو نظرنا إلى تعريف المرض فنجد أن هناك تصنيفات وكتب ومراجع كثيرة لا حصر لها تهتم بتعريف الأمراض المختلفة وتوصيفها وتبويبها وقياس شدتها والغوص في اسبابها ومآلاتها ابتداء من الأمراض السارية وانتهاء بالامراض المزمنة وما بينها من امراض اخرى لا يمكن الوقوف عليها، مثل الأمراض النادرة. و قد أدى توجيه البوصلة نحو وجه المرض – أي استجلاب وجه المرض - بطريقة تعسّفية أدت معه نشوء منظمات لا شغل ولا همّ لها إلا دراسة الأمراض وتعريفها وتشخيصها باعتماد طرق وآليات التشخيص على رأسهم موسسة كلية علم الأمراض الأمريكية (CAP)، التي تأسست منذ ثمانية عقود تقريبا، وهي تهتم أساسا بكل ما يمت للأمراض بصلة من حيث تشخيصها وتصنيفها، وكذلك تهتم بقوانين وأخلاقيات وآليات تجهيز معامل تشخيص الأمراض، كما أنها تجري امتحانات دورية وتقوم بزيارات ميدانية للوقوف على تجهيزات المعامل والمختبرات داخل انظمة الرعاية الصحية ليتم اعتمادها وترخيصها لمزاولة المهنة أو عدم منح الثقة لها. وهذا الإعتماد الأكاديمي للمختبرات والمعامل يكون صالحا لمدة عامين تقريبا يتم بعدها مراجعة البروتوكولات التشخيصة، والأجهزة المعتمدة، والكواشف، والمواد المختبرية المطلوبة للتشخيص، وتحديثها من حين لآخر كلما استجدّت معارف جديدة في التشخيص والعلاج. كما تلعب مؤسسة إدارة الغذاء والدواء (FDA) دورا موازيا في اعتماد الاجهزة التشخيصة والأدوية والعلاجات الجديدة واعتمادها – أو رفضها - لتدخل إذا ايجزت لسوق العمل لصناعة الرعاية الصحية المتمثلة في أنظمة الرعاية الصحية المعروفة لدينا. 

ومن الأمور الأساسية الأخرى التي تهتم بها منظمة الصحة العالمية هو الإنشغال بتوقع الأمراض المستقبلية وطرق تجنبها والعمل على منعها ومكافحتها قبل ظهورها وشيوعها بين الناس. وهذا الجهد يتطلب آليات وبرامج وسياسات ومناهج تختلف تماما عن برامج وسياسات وخطط تشخيص الأمراض. فتشخيص المرض يبدأ بعد ظهوره وملاحظته بينما توقع المرض هو دراسة احتمالية ظهوره مستقبلا. والفرق المفاهيمي بين تشخيص المرض وتوقعه شاسع جدا. وفي المقابل أيضا، اهتمت منظمة الصحة العالمية بوجه الصحة من ثنائية وجهي عملة الصحة والمرض، وذلك برسم خطط وبرامج وتوصيات وسياسات تهتم بتعزيز الصحة والمحافظة عليها بين الأفراد والمجتمعات، لكن للأمانة لا يمكن مقارنتها – أي نشاطات تعزيز الصحة – داخل المنظمة بنشاطات تشخيص الأمراض ومكافحتها وتوقعات حدوثها مستقبليا. فالمقارنة بين نهجي الصحة والمرض داخل دواليب ومكاتب وفروع منظمة الصحة العالمية المنتشرة لا يمكن المقارنة بينهما. فأغلب برامج المنظمة الموجهة نحو تعزيز الصحة والحفاظ عليها – في رأي المتواضع – هي برامج قاصرة مبتورة غير متكاملة تهتم غالبا بالجوانب المادية للصحة مهملة ومسقطة – بوعي أو بدونه - لجوانب أخرى اجتماعية وأخلاقية ودينية وسلوكية واقتصادية وبيئية مهمة جدا في تعزيز الصحة و الحفاظ عليها. 

وإذا أمعنا النظر في الطرق أو التوصيات التي تعتمدها المنظمة في تعزيز الصحة نجدها لا تتعدى التوصيات التالية: الإنقطاع عن التدخين والمسكرات، مزاولة الرياضة، الأكل الصحي دون ايجاد طرق عملية أو أدوات ناجعة في ترسيخ مفهوم وتطبيق هذه التوصيات بين الأفراد والمجتمعات – حتى وان اعتبرناها قاصرة لا تفي بالمطلوب. بينما البرامج والطرق والمناهج المعتمدة في تشخيص الأمراض وتصنيفها وعلاجها لايمكن حصرها كما قلنا. 

إذا هناك خلل منهجي واضح وجلي بين وجهي عملة أو ثنائية الصحة والمرض لدى أكبر منظمة صحية أصلا أسست لهذا الغرض وسميت باسم "الصحة"، فما بالك بالأفراد والمجتمعات وسلوكياتهم واختياراتهم غير الراشدة في الغالب مما نتج عنه انتشار أمراض غير مسبوقة لم تكن في أسلافنا. هذه الثنائية كما قلنا من الثنائيات المعقدة التي اشغلت فكر الإنسان منذ ادراكه ووعيه إلى ان يغادر الدنيا. وهذا الفشل الذريع المشاهد والملاحظ في معدل الإصابة العالي بالأمراض في العالم اجمع هو نتاج لأخطاء منهجية – في تصوري – طالت كيفية أو آلية التعامل مع هذه الثنائية بطرق منهجية صحيحة. فهذه المنهجية الخاطئة لم تجلب وجه الصحة بعد، بل انها فشلت تماما وعملت على استحضار وجه المرض وترسيخه ظنا منها بأن تشخيص المرض وعلاجه يجلب وجه الصحة تباعا. إذا هذه الجدليّة لثنائية الصحة والمرض، يجب ان تحثنا إلى نقف قليلا، ونلتفت هنا وهناك، ونمعن النظر للبحث سويا عن طرق ومناهج أخرى أكثر فاعلية في تعزيز صحة الأفراد والمجتمعات. ولعلّ هذا يكون في مقالة أو نقاش قادم بيننا بإذن الله تعالى.