Feed Item

طال  التسليع (commodification) كل مناحي الحياة تقريبا، والرعاية الصحية ليست استثناء. بل حتى المعرفة ذاتها طالها التسليع وصارت خاضعة لمصطلح السوق (الربح والخسارة).  وعليه يمكننا استيعاب تسليع الأشياء الخدمية المتنوعة التي تلامس رغبات الناس وحاجاتهم (ضروريات، حاجيات، كماليات) كالمسكن والملبس والمركوب، لكن ان تطال أهم وأعز ما يملكه الإنسان وهو صحته وعافيته، فهذا الحال من الارتكاس والحمأة يتخطى تصور الإنسان السّوي ذو الفطرة السليمة. وإذا ما امعنّا النظر جليّا، فسنلاحظ أن جوهر  ومحرك التسليع أو البوصلة التي توجه مسار التسليع في أنظمة الرعاية الصحية هي الكلمات المفتاحية التالية: "الخلود" و "ملك لا يبلى" وهي الكلمات التي استعان بهما الشيطان في سياق تخابثه على أبينا آدم عليه السلام ليخرجه هو وزوجه من الجنة. هاتان الكلمتان المفتاحيتان "الخلود" و "الملك" هما المحرك أو البوصلة التي لا زال يستعين بهما الشيطان إلى يومنا هذا في اغواء الناس واحالة حياتهم إلى غمّ وهمْ. فالإنسان مفطور على حب الخلود والتملك، أي بمعنى ان الإنسان بطبيعته يرغب في العيش إلى الأبد، وأن يتملك الاشياء بلا حدود.

وفي سياق الملك، يقول ابن خلدون ان الملك ينزع نحو التفرد لا المجموع، أي ان خاصية الملك هي فطرة اصيلة في الإنسان وانها دائما تنزع به نحو التفرد لا المشاركة. أي ان الإنسان وحده يحب ان يملك الاشياء كلها دون غيره من الناس، وهذه الاشياء مشمول فيها حب المال والسلطة والجاه والمقام والدرجة والرفعة وغيرها من الرغبات. وكما اخبرنا النبي محمد صل الله عليه وسلم في هذا السياق بقوله: "لو أن لابن آدم وادياً من ذهب أحب أن يكون له واديان" وهكذا هو الإنسان وهكذا هي طبيعته. وبالعودة إلى انظمة الرعاية الصحية ومن يديرها من كوادر بشرية متنوعة ادارية تخطيطية، وتشريعيه قانونية، وتشخيصية علاجيه، وتعليميه توعويه وغيرها، كل هذا الكادر البشري الذي يقف خلف هذه الصوامع والمؤسسات الصحية يحركها حب "التملك" المال تحديدا، وفي الضفة الأخرى يقف المريض المصاب بالامراض المتنوعة باحثا وراغبا  في "الخلود". وما بين "الخلود" و"الملك"، أو من رحم هذه الثنائية تدار عجلة صناعة الرعاية الصحية وتروج لتصبح أكبر صناعة عرفها الإنسان منذ هبوطه من الجنة ووطأت قدماه الأرض ليستعمرها ويستخلفها.

فغاية أنظمة الرعاية الصحية هو جعل الإنسان ان يعيش أطول وقت ممكن، وبصحة جيّدة خالية من الأمراض (to live longer and healthier). وعليه، تطلّب جوهر الرعاية الصحية المتمثل في تشخيص الأمراض وعلاجها إلى التمدد في ابتكار أجهزة تشخيصية وعلاجية متنوعة، وتطلّب أيضا تأسيس مدارس ومعاهد للعلوم الطبية، والطبية المساعدة بأقسامها وتخصصاتها المختلفة كمغذّي ورافد من روافد أنظمة الرعاية الصحية. والجدير بالملاحظه هنا، ونتيجة للتقدم العلمي السريع، أصبحت أنظمة الرعاية الصحية تعتمد أساسا على علوم المختبرات والتقنية المتقدمة، فتشعّب المجال الطبي إلى المزيد من التخصصات الطبية الرئيسية والفرعية. فمنذ منتصف الثمانينيات من القرن الماضي تقريبا، قفز عدد التخصصات الطبية الفرعية من 40 تخصص طبي إلى أكثر من 120 تخصص طبي مُعْتمد ومرخّص من الجهات الطبية العالمية، ومن المتوقع  مستقبلا أيضا أن تنشأ وتبرز تخصصات طبية أخرى معتمدة على التقنية، والحبل على الجرّار. وبناء على ما تقدم، ومع تزايد التخصصات الطبية المُعْتمدة المتنوعة، أصبح التنسيق بين التخصصات الفرعية أكثر صعوبة. وبهذا، أصبح تعقيد أنظمة الرعاية الصحية مرهقًا عند محاولة تسخير كل تخصص طبي فرعي فردي لصياغة تدخّلات طبية شاملة تناسب المريض ككل. والسؤال الجوهري الذي يطرح نفسه الآن هو: هل مكافحة الأمراض التي تصيب الناس أو استعادة صحتهم وتعزيزها يحتاج هذا الكم الهائل من المتوالية المتوالدة غير المتناهية من التخصصات الطبية المختلفة؟ أم علينا أن نفكر في ايجاد نهج آخر بديل يمكن من خلاله تعزيز الصحة ومنع انتشار الأمراض. سؤال مطروح يحتاج إلى إجابة!!

وبالعودة إلى ظاهرة تسليع الرعاية الصحية، وإذا سلّمنا ورضينا بهذه المتوالية المضطردة من توليد اجهزة التشخيص والعلاج داخل منظومة الرعاية الصحية المركزية الخاملة للقضاء على المرض وتعزيز الصحة، نلاحظ أن على اطراف هذا المرض (واحة المرض إذا جاز التعبير) تم التوسع في تسليع تجارات أخرى لا تمت لجوهر المرض – من تشخيص وعلاج -  بصلة تماما مثل التفنن في البناء المعماري للمسشتفى، أو العيادة الطبية، والإهتمام بلوازم جمالية هامشية اخرى جعلت من المستشفيات والمراكز الطبية شبيهة بالأسواق والمراكز التجارية الكبرى التي يرتادها الناس لقضاء أوقات فراغهم في التسوق واللعب والمتعة، حتى خرج علينا في السنوات الأخيرة ما يعرف بالسياحة العلاجية (medical tourism)، و هي إحدى أنواع السياحة التي تتطلب السفر بهدف العلاج أو الاستجمام في المنتجعات الصحية في مختلف بقاع العالم، لتتنافس في هكذا نوع من السياحة العلاجية كبرى دول العالم الغربي. فأدى هذا السلوك الاستهلاكي التسليعي إلى فشل مؤسسات الرعاية الصحية الحكومية ونتج عنه التوجه وبقوة نحو ما يعرف اليوم بمفهوم الخصخصة، لتتحول انظمة الرعاية الصحية إلى مؤسسات ربحية، لينخر التسليع الصحي من ماهية القيم الإنسانية ويؤثر بقوة على عمق العلاقة بين الأطباء ومرضاهم المبنيّة ابتداء على الثقة والإحترام ويدمّرها.

كما أنني لا أرغب الخوض هنا في دور  صناعة الدواء كمحرك مهم في تسليع الرعاية الصحية، ولعلنا نفرد له مقالا آخرا نسلط فيه الضوء على ما يعرف حاليا في أوساط المجتع الطبي بهوس أو وهْم الأدوية العلاجية (Drug Illusion).