Feed Item

تحدثنا في مقالة "ثنائية الصحة والمرض" عن أن الخلق والكون نشأ على فلسفة الثنائيات (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ)، وأن هذه الثنائيات لا يمكن حصر عددها لكثرتها في عالم الكون والوجود، وأن هذه الثنائيات المتعددة تتفاعل مع بعضها البعض على نمط وجه العملة الواحدة. إذا حضر وجه احدها غاب الوجه الآخر في متوالية متناغمة على مداري الزمان والمكان. وأن حضور أو غياب أحد وجوه هذه الثنائيات المتنوّعة يستغرق أوقاتا متباينة ومختلفة باختلاف ماهية الثنائيات ذاتها. فمنها ما يتغيّر بتغيّر اللحظة الزمنية (الليل والنهار) ومنها ما يستغرق زمن الخلود الأبدي (الجنة والنار مثلا). ومنها ما هو سائد بطبيعته (الأصل) ومنها ما هو متنحي (الاستثناء). وبإسقاط صفة السائد والمتنحي على وجهي هذه الثنائيات نجد أن أحد وجهيها يكتسب الصفة السائدة، والوجه الآخر يكتسب الصفة المتنحية. بمعنى أن أحد وجهي هذه الثنائيات أصيل – هو الأصل، والوجه الآخر هو عارض - استثناء. فلو نظرنا نظرة سريعة على هذه الثنائيات المركبة المتقابلة ـ اي المتضادّة - نجد ان وجه النهار، أو وجه النور هو الوجه الأصيل بينما وجه الليل أو وجه الظلام هو الوجه الاستثناء ـ أي العارض. ومثلها إذا نظرنا في ثنائية الموت والحياة، أو ثنائية الكفر والإيمان. فالأوجه الأولى (الحياة، الإيمان) هي الأصل، والأوجه التالية (الموت، الكفر) هي الإستثناء ـ العارض. وبناء على ما سبق، فالخير هو الأصل والشر هو استثناء، والحسنة هي الأصل، والسيئة استثناء، والآخرة هي الأصل، والدنيا استثناء. والحياة هي الأصل، والموت استثناء، والجنّة هي الأصل، والنّار استثناء. والذكر أصل، والأنثى استثناء، وهكذا دواليك. كما لا تعرف الثنائية الا بوجود وجهان لها، فلا يعرف احد الأوجه الا بوجود وتوالي الوجه الاخر معه في تبادل للأدوار وتضاد محكم بينها حد أو فاصل. 

وبالعودة إلى ثنائية الصحة والمرض، نستطيع ان نقول بأن الصّحة أو العافية هي الأصل، والمرض هو العارض أو الاسثناء. كما ان هذه الثنائيات الكثيرة في ماهيتها وطبيعتها تتداخل فيما بينها بحيث تعضد احداهما الأخرى. فالأوجه الأصيلة (السائدة) تعضّد وتدعم بعضها بعضا، في مقابل تعاضد الأوجه العارضة (المتنحية - الاستثناء). فوجه الإيمان يدعم وجه الخير، ووجه الخير، يدعم وجه الحسنة، ووجه الحسنة يدعم وجه الجنة، وفي الإتجاه الآخر المتنحّي، تعضّد الأوجه المتنحيّة بعضها بعضا سواء بسواء. فوجه الكفر يدعم وجه الشر، ووجه الشر، يدعم وجه السيّئة، ووجه السيّئة يدعم ويدفع نحو وجه النّار، وهكذا دواليك. وكما تتنوّع هذه الثنائيات في ظروفها الزمانية والمكانية، تتنوع فيما هو محسوس منها، و ما هو معنوي أيضا، وما هو إسم وما هو صفة او نعت. والأهم من هذا وذاك، ان هذه الثنائيات تتنوع بين ما هو جبري قدري، وما هو مخيّر (مختار) يخضع لإرادة الإختيار عند الإنسان.

وللتدليل على ما سبق، يمكن القول بأن ثنائية الجنّة والنّار هي ثنائية لظرف مكاني، وثنائية الليل والنهار ثنائية لظرف زماني، بينما ثنائية الدنيا والآخرة تحمل ظرفي الزمان والمكان معا. والثنائيات المعنوية غير المحسوسة تشمل مثلا ثنائية الهدى والضلال، والخير والشر، الكفر والإيمان بينما الثنائيات المحسوسة تشمل ثنائية الحي والميت، وثنائية الذكر والانثي، وثنائية الظلمات والنور، والأبيض والأسود، وغيرها من الثنائيات.

وبالنظر إلى الجبري (القدري) والمخيّر (المختار) في هذه الثنائئات فيمكن القول بأن الثنائيات الجبرية تشمل ثنائية الموت والحياة، وثنائية الدنيا والآخرة، وثنائية السّموات والأرض، وثنائية الذكر والأنثي، وثنائية الظلمات والنور، وغيرها. بينما الثنائيات المخيّرة، التي يستطيع الإنسان ان يختار فيما بينها بمحض ارادته دون اجبار هي ثنائية الخير والشر، وثنائية الكفر والإيمان، وثنائية الهدى والضلال، تحت معنى وهديناه النجدين، وبالتدقيق في خاصية الاختيار هذه نجد ان الانسان خلق مجبورا على الاختيار، وليس مختارا في صفة الاختيار.

كما يجب ان ننوه إلى ان هناك حافة أو هامش للثنائية (العملة) يقع بين الوحهين، وأن هذه الحافة لا تنتمي لأي من وجهي الثنائئة بحيث تستمر لتدخل حيّزا زمانيا أو مكانيا بقدر الفترة التي تتبدل فيها أوجه الثنائيات. فالفجر هو حافة أو هامش ثنائية الليل والنهار، والبرزخ حافة أو هامش لثنائية الدنيا والآخرة، والشك منزلة أو هامش بين ثنائية الكفر والإيمان، والأعراف منزلة بين منزلتين، أي بين منزلة الجنة والنار. وهو سور عال بين الجنة والنار عليه أهل الأعراف .وهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فقصرت بهم سيئاتهم عن الجنة ، وتجاوزت بهم حسناتهم عن النار ، فوقفوا هناك حتى يقضي الله فيهم ما يشاء ثم يدخلهم الجنة بفضل رحمته. 

وبما ان بوصلة المقالة تدور حول ثنائية "الصحة والمرض"، فهذه الثنائية تندرج تحت الثنائيات المحسوسة، المكانية والمخيّرة، بمعنى أن الإنسان يمكن له ان يتحسّس صحته ومرضه، كما يمكن له أيضا ان يلعب دورا كبيرا في استحضار وجه الصحة والعافية له ولمجتمعه الذي يتواجد فيه، وله الاختيار والقدرة في أن يؤخر أو يمنع عنه وجه المرض، وذلك باتباع طرق وآليات وسنن ومناهج تعينه في تمكين عافيته وصحته والمحافظه عليها، ومنع الأمراض عنه. ويمكن الالتفات إلى هذا المعنى في قوله سبحانه وتعالى: (ظَهَرَ الفَسادُ فِي البَرّ والبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أيْدِي النَّاسِ). فالناس هم المسؤولون وحدهم عن فسادهم وصلاحهم  في امور دنياهم وآخرتهم. ورأس الفساد هنا الأمراض بشقّيها المعنوي والحسي، ورأس الصلاح يشمل بالطبع الصحة والعافية. والعافية هنا تشمل كل اوجه العافية الجسمية (الصحة)، والعقلية، والنفسية، والروحية، والأخلاقية، والمالية، والمهنية، والمجتمية، والمكانية. فتعزيز العافية والحفاظ عليها باستجلاب وجهها على حساب وجه المرض يتطلب جهدا جبارا  - يمكن تحقيقه على اعتبار ان ثنائية الصحة والمرض ثنائية اختيارية وليست جبرية قدرية -،  تبدأ بتغيير مناهج التفكير لدينا، وأساليب التعليم والتعلم في مجال الطب الحيوي التي ورثناها في القرنين الماضيين. 

  • 💓 1
Comments
    • كل شيء عنده بمقدار " سبحانه، توفيق راءيع، الله يحفظكم. 

      Login or Join to comment.