Feed Item

في شهر أكتوبر من عام 2020 مرّت الذّكرى الثلاثون على انطلاق مشروع الجينوم البشري – اكبر مشروع حيوي في العصر الحديث –الذي فُتحتْ به ونشأت من رحمه مجالات وعلوم وتخصّصات علمية مختلفة في علوم الحياة وابحاث الطب الحيوي لم تكن معروفة سابقا. وبهذه المناسبة تم اطلاق مبادرة اخذ آراء مصوّرة (selfies) لبعض العلماء والباحثين الذين أثّروا وتأثّروا بهذا المشروع الإنساني العلمي الضخم، حيث تم تنسيق هذه الآراء بإطلاق المبادرة المصوّرة  (video  testimonials)  من خلال الإجابة على سؤال أو أكثر من الأسئلة الأربعة التالية، والتي قد تساعد في صياغة الإجابة خلال مدة زمنية لا تتعدى دقيقة واحدة:

  1. متى سمعت للمرة الأولى عن المشروع الطموح الذي عرف بمشروع الجينوم البشري؟
  2. مشروع الجينوم البشري أثر في مجالي العلمي في ... ؟
  3. مشروع الجينوم البشري ألهمنى في...؟
  4. من وجهة نظري، أهم ثلاث تحولات أو موروث خلّفه مشروع الجينوم البشري هي ....؟

لكن قبل أن نشرع في التعرّف على آراء العلماء والباحثين بعد ثلاثة عقود من انطلاقه، دعونا نعرّج قليلا للتعريف بفكرة المشروع، وكيف بدأت، ومتى انطلقت، ومن شارك فيه، وكم رصدت له من ميزانية أولية، وكيف تم الاستثمار في المشروع، ومتى انتهى العمل به والاعلان عن ذلك، وما هي التخصّصات والمجالات والابحاث العلمية التي خرجت من رحم هذا المشروع، ولازالت. 

بدأ مشروع الجينوم البشري (Human Genome Project, HGP)  في أكتوبر 1990، تحتَ إشراف مكتب الأبحاث البيولوجيّة والبيئيّة التّابع لمكتب العلوم في وزارة الطّاقة الأمريكيّة (DOE)، بالإشتراك مع المعهد الوطني الأمريكيّ للصحّة (NIH)، والمعهد الوطني لأبحاث الجينوم البشري (NHGRI).  حيث كانت وزارة الطاقة الامريكية مسؤولة خلال النصف الثاني من القرن العشرين تقريبا عن ابحاث ودراسات معمقة عن الأخطار المحتملة على صحة الانسان نتيجة للتوسع في استخدام الطاقة والتقنيات المولّدة لها، وركزت ابحاثها بصورة خاصة على مدى تأثير الإشعاع الذري على الكائنات الحية بما فيها الإنسان، وخصوصا بعد كارثة هيروشيما ونجاساكي. فقد كشفت الدراسات الأولية ان هناك تغيرات طفيفة تحدث لمادة الحمض النووي (DNA)، الذي يعتبر الخارطة الزرقاء (blueprint)، الذي يحمل الشفرة الوراثية المسؤولة عن الوظائف الحيوية والبنائية لجسم الإنسان. وهنا بدأت بوصلة البحث العلمي تتجه نحو الاستمرار في فك ألغاز هذا العدد الهائل من المورثات الجينية بغرض معرفة ما يترتب عليها من تغيرات تؤدي إلى الأمراض، وذلك بتتبع ومعرفة وظيفة كل جين، وما تسببه الطفرات الجينية فيه من أمراض وعلل. ومن هذا المنطلق، وفي عام 1984 تحديدا طرح سؤال محوري من قبل اللجنة العلمية لوزارة الطاقة واللجنة الدولية للوقاية من الطفرات والمسرطنات البيئية عن مدى اهمية تعيين ومعرفة سلسلة الجينوم البشري (DNA sequence)؟، وكيف يمكننا تحقيق ذلك من خلال استخدام التقنيات الجزيئية الحديثة، بحيث يمكننا بعدها من معرفة الطفرات الجينية المسرطنة الناتجة من الإشعاع النووي. فأصل فكرة المشروع هو الحصول على نسخة دقيقة من المخطوطة الوراثية الكاملة للإنسان السليم، وبعدها يتم مقارنتها بالخرائط الجينية للناس المصابين بالأمراض السرطانية وغيرها من الأمراض ليتم بعدها تحديد الطفرات الجينية المتنوعة التي تصيب الإنسان المصاب بالمرض والعمل على علاجها. وبعد جدل واسع بين الأوساط العلمية على مختلف المستويات التشريعية والتنفيذية والمالية خلال منتصف الثمانينات من القرن الماضي، فقد استقر الإجماع في نهاية المطاف على أننا يجب أن نخطو في هذا الاتجاه، وبناء عليه، تم تأسيس منظمة الجينوم البشري (Human Genome Organization, HUGO)، بالولايات المتحدة الأمريكية عام 1988م.، كان هدف هذه المنظمة الدولية هو حل شفرة كامل الجينوم البشري. وفعلا بدأ العمل رسميا بمشروع الجينوم البشري (HGP) في اكتوبر عام 1990 على ان يستغرق تنفيذه مدة زمنية قدرت بـ 15 عاما، لكن التطورات التكنولوجية الهائلة عجلت بالانتهاء منه قبل موعدهِ المحدد لهُ بسنوات. فأعلِنَ عن النّسخة الأولى من الجينوم في سنة 2000، وعن النّسخة الكاملة في سنة 2003، كما أنّ هنالك تفاصيل وتحاليل أدقّ ما زالت تُنشَر حتّى هذهِ اللّحظَة، مع ملاحظة أن معظم الأبحاث التي ساهمَت في تحليل الجينوم تمَّت في مختبرات الجامعات والمراكز البحثيّة الأمريكيّة، بالإضافَة إلى مشاركة دولٍ أخرى مثل بريطانيا، اليابان، فرنسا، ألمانيا، وإسبانيا. وقدرت الميزانية الأولية للمشروع بمبلغ قدره ثلاثة مليار دولا تقريبا، وقد شارك في هذا المشروع اكثر من 1000 باحث وباحثة تقريبا من دول العالم. وطبقا لظاهرة قانون  مورو (Moore’s law) في نزعة انخفاض اسعار التقنيات الدقيقة بمرور الزمن، فقد بدأ مشروع فك الشفرة الجينية للإنسان بتكلفة ضخمة قدرت بالمليارات استغرقت سنوات عديدة من العمل المضني ليتم بعدها الاستثمار والتطوير في تقنيات الجيل التالي من التسلسل الجيني لتنخفض تكلفة فك الشفرة الجينة إلى 1000 دولار تقريبا، وجاري العمل حاليا لتخفيضها في السنوات المقبلة ليصبح سعر فك الشفرة الجينية لأي شخص تصل حوالي 100 دولار أمريكي، لا تستغرق من الوقت إلا ساعات قليلة فقط. لذلك علق احد العلماء المشتغلين في مشروع الجينوم قائلا: لو تم الاستثمار في عالم صناعة السيارات كما تم الاستثمار في تقنيات التسلسل الجيني لأصبح سعر السيارات الفارهة مثل سيارة لومبرغيني، وفيراري، أو مرسيدس مثلا حوالي 10 سنتات للسيارة الواحدة. 

كما يجب التنويه إلى ان مشروع الجينوم البشري المشار إليه أعلاه يعرف بمشروع الجينوم البشري المقروء (HGP-read)، وأن هناك مشروعا آخرا موازيا له انطلق في شهر يونيو من عام 2016، يسمي بمشروع الجينوم البشري المكتوب (HGP-write) رصدت له ميزانية قدرت بـ مائة مليون دولار امريكي، تشرف عليه مؤسسة بحثية أمريكية غير ربحية تعرف بمركز التميز في الهندسة البيولوجية  (Center of Excellence for Engineering Biology) الهدف منه اعادة تركيب مادة الحمض النووي والتسلسل الجيني في خطوط خلايا مزروعة  (cell lines) لإنتاج جينوم خال من الطفرات الجينية، ومقاوما للأمراض الفيروسية وغيرها. أي بمعنى صناعة وانتاج مادة وراثية خالية من الطفرات الجينية. وعلى اعتبار ان مشروع الجينوم البشري أكبر مشروع حيوي في تاريخ البشرية الحديث، نتج عنه بروز مجالات وتخصصات علمية جديدة لم تعرف من قبل مثل البنوك الحيوية (Biobanks)، والمعلوماتية الحيوية (Bioinformatics) ، وعلم العينات (Biospecimen Science) ، وعلم البيانات الضخمة (Omics and big data science)، كما تم الاستعانة بالذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة والدفاتر الرقمية (blockchains)، ودخول مايعرف بانترنت الاشياء  (IoTs) وغيرها لينتعش سوقها على ضفاف المشروع، كما أطلقت برامج وتحالفات ومجموعات علمية بحثية كبيرة عابرة للحدود الجغرافية للدول المتقدمة هدفها دراسة العديد من الأمراض المعقدة التي تحصد أرواح الناس، وذلك بدراسة الظواهر الصحية والأمراض المختلفة بشقيها المعدي (الساري) وغير المعدي (الأمراض المعقدة). كما تقدمت علوم أخرى كعلوم الطب الشرعي وطب الكوارث، وعلوم النباتات، وعلوم البيئة، وصناعة الوقود الحيوي، والصناعات الدوائية، والزراعية، والتغذية، والانثروبولجي وغيرها. كل هذه العلوم والمعارف تكونت أو تطورت – بلا منازع - من رحم مشروع الجنيوم البشري بشقيه المقروء والمكتوب.

بعد هذا التقديم المبتسر عن المشروع، دعونا نعود للإطلاع على آراء العلماء والباحثين الذين احتفلوا بالذكرى الثلاثين للمشروع. ويمكننا تلخيص آرائهم المتنوعة في الكلمات والجمل التالية:

  1. المشروع غيّر من مجال الطب الحيوي وعلوم الحياة
  2. المشروع غيّر من طريقة تعامل الناس وتعاطيهم مع الأدوية العلاجية (pharmacogenomics)
  3. أسّس المشروع لما يعرف اليوم بالطب الشخصي (personalized medicine)
  4. المشروع سيكون العمود الفقري لطب القرن الحادي والعشرين  (backbone of 21st century medicine)
  5. تغير مفهوم مجال علم الوراثة الكلاسيكي التقليدي  (traditional genetics)
  6. التركيز وتسليط الضوء على الجوانب الأخلاقية والقانونية والإجتماعية للأبحاث العلمية (ELSI implications)
  7. بروز ما يعرف اليوم بعلوم البيانات الضخمة  (big data science)
  8. التسريع في انجاز مشاريع التنميط الجيني للناس Genome-Wide Association Studies (GWAS) ومعرفة استعدادهم وقابليتهم للاصابة بالأمراض المختلفة
  9. ترسيخ وتشجيع مبدأ مشاركة البيانات البحثية بين الباحثين والعلماء (data sharing concept)
  10. انتشار ظاهرة مراكز معالجة البيانات الضخمة وتخزينها (data repositories/centers)
  11. بروز ظاهرة المجموعات البحثية والعمل الجماعي ذو التخصصات العلمية المختلفة (multidisciplinary research groups)
  12. التركيز والاهتمام بقضية الملكية الفكرية للأبحاث لتنوع التخصصات وفرق العمل المنفذة للمشاريع البحثية
  13. كما كانت هناك آراء شخصية ركزت على تمكين المشروع لهم من مقابلة الكثير من العلماء و الباحثين ، وحضورهم للمؤتمرات والفعاليات العلمية بالمشاركة والمناقشة مع اهل الاختصاص في اغلب مجالات علوم الحياة والطب والحيوي في جميع انحاء العالم الفسيح.

كانت هذه باختصار شديد آراء العلماء والباحثين الذين شاركوا في الإدلاء بآرائهم حول أهمية مشروع الجينوم البشري في الذكرى الثلاثين لإنطلاقه. لكن مع هذا، والعجيب أن أحدهم لم يتطرق ولو بكلمة واحدة عن عظمة الله سبحانه وتعالى في خلقه وتدبيره (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ).

و للإطلاع على المزيد من الآراء المسجلة للعلماء والباحثين في الذكرى الثلاثين لإنطلاق المشروع ، يمكن النقر على الروابط التالية:

  1. https://www.google.com/search?safe=strict&tbm=vid&sxsrf=ALeKk03X1MNKKtcbkjGH7j0ingnft2cclw:1612340893171&q=Human+Genome+Project+30th+Anniversary+Selfies:+Marco+Marra+(Part+1+of+2)&sa=X&ved=2ahUKEwiVw8bxpc3uAhWLZMAKHQ3WBMoQ8ccDKAR6BAgDEBY&biw=1228&bih=570&dpr=3.13
  2. https://www.genome.gov/player/8qckKQanro/PL1ay9ko4A8slFIfl9qFW8awo-ml33HC0P

أختم المقالة بطرح رأي الشخصي المتواضع في مشروع الجنيوم البشري، والفائدة التي استفدت منها خلال مسيرتي في البحث العلمي في مجال الجينوم والسرطان والبنوك الحيوية لفترة زمنية تدنو من ثلاثة عقود تقريبا.

  1. منذ أن تعرّفت على المشروع واطّلعت عليه، تم توسيع مدارك التفكير عندي في علم الأحياء والطب الحيوي
  2. من خلال المشروع أدركت مدى التعقيد البيولوجي للإنسان الذي يتجاوز خيالنا وإدراكنا وتصورنا
  3. المشروع سمح لي بالتفكير خارج نطاق الصندوق وتعزيز التفكير النقدي لدي
  4. بعد الفهم العميق وتفاعلي البحثي اليومي مع اجزاء من المشروع في ابحاث السرطان، أدركت أن مشروع الجينوم البشري لن يكون حلاً سحريًا أو أداة مؤثرة في طب القرن الحادي والعشرين.
  5. التعقيد البيولوجي لبيولوجيا الإنسان يحدْ من مبدأ السببية للأمراض (complexity limits causality)
  6. نجح مشروع الجينوم بشكل رئيسي في فهم والتعرف على الجزء المادي من تسلسل مادة DNA والجينات الناتجه عنه  (Anatomy of genome)، لكنه عجز عن فهم الجانب الوظيفي (physiology of genome) والتفاعلات الديناميكة البينية بين المادة الجزيئية للبيولوجية المتمثلة في DNA, RNA, Protein
  7. مشروع الجينوم البشري لم يضف شيئا تقريبا في القضاء على الأمراض المزمنة المعقدة (complex diseases)، التي تحصد أرواح ملايين الناس سنويا (non-communicable diseases, NCDs).
  8. من خلال المشروع تعرفت على مصطلح الطب الشخصي (personalized medicine)، لكني شخصيا أؤمن بمصطلح العافية الشخصية (personalized wellness)
  9. نظرًا لأنه يُعتقد بأن جزءً من الطب الشخصي يمكن تحقيقه من خلال فك شفرة الجينوم البشري، أعتقد أن العافية الشخصية تعتمد بشكل أساسي على عوامل أخرى من خارج ضلع الجينوم.
  10. تعزيز العافية الشخصية للأفراد والحفاظ عليها لا يتطلب تماما فك شفرة الجينوم البشري أو التعرف عليها أصلا.

هذا والله أعلم وأجل،،،