مبروكة…المبروكة

جديد

قصة حقيقية . . مع التحفظ علي الأسماء

بقلم / محمد ناجي

أنهي عبد الله فترة علاجه الطويلة بعد أن قام بإجراء عملية جراحية علي العمود الفقري في المستشفى الألماني علي يد دكتور العظام المشهور د / هوغو ، كانت عملية صعبة وفترة علاج طويلة تضمنت الأدوية والمسكنات والعلاج الطبيعي وغيرها . . 

فرحة غامرة طالت عبد الله فقد زالت الألام التي كان يعاني منها وأصبح قادرا علي المشي بكل يسر وسهولة ..وأيضا مضت أيام الغربة ولم يتبقي له في ألمانيا إلا يوم أو يومين يرجع بعدها إلي وطنه و أهله اللذان إشتاق إليهما كثيرا كثيرا

صباح يوم المغادرة . . مر الدكتور / هوغو علي مريضه للإطمئنان عليه والسلام حال المغادرة . . دار حديث بسيط بين الأثنين فيه شيء من الإنبساط والمجاملة وأخيرا طلب عبد الله من الدكتور هوغو كشف حسابه بالكامل من كشوفات وتحاليل وعملية وغيرها ..صمت الدكتور هوغو لبرهة . . 

نظر إلي عبد الله نظرة عميقة فيها الكثير من المعاني . . تم أردف قائلا : الحساب مدفوع يا عبد الله الحساب مدفوع . . ليس الأن ولكن من زمان . . من زمان جدا وسوف أخبرك كيف . .

في شبابي كنت طبيبا في الجيش الألماني ، وعملت مع الجيش في مدينة طبرق بليبيا ..بالتأكيد أنت قرأت وتعرف التاريخ . . إنهزمت ألمانيا في الحرب العالمية الثانية وكنت من ضمن الأسري لدي القوات الإنجليزية .. زج بنا في السجن بأحد السجون المحيطة بمدينة طبرق وكانت حياتنا في السجن بالغة القسوة والعذاب حتي أن الكثير منا مات من شدة الجوع والمرض .

كنت في زنزانة تعلوها نافذة صغيرة تطل علي فضاء فسيح ، نري من خلالها أشعة الشمس و قليل من الأشجار المتناثرة ، ونستنشق بعضا من الهواء النقي الخالي من العفونة والرطوبة ،كل يوم نري مجموعة من الرعاة يسرحون بأغنامهم طلبا للمرعي ..كنا نحسدهم علي حريتهم وحياتهم برغم بساطتها وما يرتدونه من ملابس رثة وبالية .

حصل في أحد الأيام أن إقتربت من النافذة إحدي الرعاة ، إقتربت بدافع الفضول والرغبة في إستكشاف المكان – ربما – او أن صوت صراخنا وإستغاثتنا قد جذبها إلينا . . لا أدري ظلت لفترة واقفة وقد شخصت بناظريها إلينا في ذهول وحزن وعطف صرخاتنا الأليمة الممزوجة بالأهات وقد مزقت سكون البادية وأيدينا التي تخرج من النافذة وقد علاها الهزال والضعف تلامس شيئا من الحرية التي تتبختر خارجا ، تغازلنا بغنج مثير في أجمل صورة ملونة ..أعتقد أن ذلك لامس مشاعرها الأنثوية الرقيقةبقوة وهزها بعنفوان أحيا إنسانيتها التي جبلت عليها .

في المساء وعندما أرخي الليل بظلاله وسكونه بهدوءه وسواده المعتم المخيف . .

 جاءت ( مبروكة ) .

جاءت وبين يديها قنينة حليب ورغيف خبز التنور الأسمر ، إقتربت بحذر شديد ، تمشي وقد لفها الخوف ، تتلفت يمنة وميسرة تستكشف المكان علي امل أن تصل إلي حيث أيدينا النحيلة .

وضعت ما تحمله علي حافة النافذة وولت مسرعة علي عجل كطيف إبتلعه الفراغ الأسود المهيب .

كل ليلة كانت تأتي مبروكة ..تأتي لتضع زجاجة الحليب ورغيف الخبز ،مما مد في أعمارنا وآجالنا إلي هذه اللحظة .. كان ما يقدمه لنا الإنجليز من طعام لا يسمن ولا يغني من جوع . . بالكاد كان يسد الرمق . فجاءت مبروكة لتنفخ في أرو حنا من جديد ..جاءت مبروكة ملاكا طاهرا مرسلا من السماء في صورة بشر... جاءت لتعطينا الأمل في الحياة والمستقبل .

جاهد الدكتور هوغو نفسه كثيرا ليمنع دمعة سقطت علي خده رغما عنه قال بصوت متهدج . .

الحساب الذي لكم علي أكثر وأكبر بكثير من حسابك الذي ستدفعه لي يا عبد الله ..إرجع إلي أهلك سليما معافي . . إرجع إلي ليبيا وأحكي لهم عن مبروكة . . إحكي لهم عن مبروكة المبروكة.

💓 1
التعليقات (1)
    • صنائع المعروف تقي مصارع السوء،، شكرا مبروكة على عملك الإنساني الفطري الذي استفاد منه لاحقا عبدالله الليبي