- · 8 friends
-
ا
- · Advanced Member
أنظمة الرعاية الصحية الحالية، ومفهوم الطب المنظومي لتحسين آدائها
ساهمت العديد من الابتكارات الهامة على مدى القرنين الماضيين في تشكيل ما يُعرف اليوم بأنظمة الرعاية الصحية الحالية، المصممة ابتداء لعلاج الأمراض السارية (المعدية) الحادة المنتشرة في ذلك الحين. لقد أسست هذه التطورات والابتكارات لما يعرف اليوم بالطب الحديث القائم على الأدلة العلمية التجريبية، التي لعبت دورا مهما في تحسين حياة كل شخص تقريبًا على كوكب الأرض. ففي الوقت الذي انقذت فيه اللقاحات والمضادات الحيوية البشرية من الأمراض المعدية الفتاكة، إلا ان هذا الانجاز الهائل لم يكن ممكنًا بدون الإنجازات التي صاحبة هذه التطورات على مستوى تحسين البيئة، والتعليم، والوعي المجتمعي بما في ذلك توافر مياه الشرب الصالحة، وإنشاء نظام الصرف الصحي، والإمدادات الغذائية الكافية، بالإضافة للنمو الاقتصادي. لقد حفزت هذه الإنجازات وساهمت في التحول الوبائي، في منتصف القرن العشرين، وأدت إلى نقطة تحول ديموغرافية هامة تميزت بارتفاع متوسط العمر المتوقع للسكان، وظهور مايعرف اليوم بالأمراض غير السارية (غير المعدية) المزمنة - مثل أمراض القلب والأوعية الدموية، والسرطان، والسكري - التي لم تكن من بين الأسباب الرئيسية للوفاة مع نهاية القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين. علاوة على ذلك، فإن الأمراض غير المعدية لها اسباب معقدة وجذور لا تزال مبهمة ومتداخلة مع مضامين البيئة الطبيعية، وغير الطبيعية المبنية هندسيا، بالإضافة للظروف والسياقات الاجتماعية والاقتصادية للشعوب والدول. وبالتالي، فإن الرعاية الصحية المعمول بها عالميا اليوم تواجه مجموعة متنوعة من التحديات المرتبطة بتدني كفاءة العلاج لأمراض متعددة ومتغيرة، بالإضافة إلى وصفات علاجية غير فعالة. فالنظام الصحي الحالي يعتمد كليا على فلسفة النهج التفاعلي مع المرض بدلا من النهج الاستباقي في علاجه، والذي أصبح يعرف حاليا بالطب المنظومي (Systems Medicine).
وطبقا لمنظمة الصحة العالمية، تعتبر الأمراض المزمنة، والمعروفة باسم الأمراض غير السارية أو غير المعدية (تشمل أساسا أمراض القلب والأوعية الدموية، أمراض السرطان، أمراض الجهاز التنفسي المزمن، أمراض السكري والسمنة، بالاضافة إلى الاضطرابات العصبية والعقلية المختلفة)، تمثل المشكلة الصحية العالمية الرئيسية في القرن الحادي والعشرين في كل بلدان العالم. وعليه، تعتبر هذه الأمراض المزمنة هي السبب الرئيس في ازدياد عدد الوفيات عالميا (تشكل ما نسبته 75% من أسباب الوفاة في العالم)، وكذلك زيادة الاعباء الصحية الثقيلة، علاوة على الفقر والتدهور الاقتصادي للبلدان. كما تشترك الأمراض المزمنة فيما بينها في مخاطر مشتركة على غرار العوامل الاجتماعية والاقتصادية، بالإضافة إلى تداخلها مع أمراض الشيخوخة.
وبناء عليه، فالتحدي الذي يواجه علاج الأمراض المزمنة في القرن الحادي والعشرين هو التعامل مع تعقيدها وتحولها "الصامت" في كثير من الأحيان من الصحة إلى المرض، مع بداية متأخرة لأعراضها المتنوعة، التي من الممكن أن تؤخر أو تحول دون التدخل الوقائي الفاعل. لحسن الحظ، يمكن الوقاية من معظم الأمراض المزمنة أو تأخيرها إلى وقت لاحق من الحياة من خلال التدخلات الفاعلة، كتبني والإستمرار على نمط حياة صحي معين مما يؤدي إلى فترة صحية ممتدة (أي مدة حياة الشخص التي يقضيها في حالة صحية خالية من المرض). فالرصد المستمر مثلا والحفاظ على القيم الطبيعية للمقاييس الصحية الرئيسية، مثل ضغط الدم، والدهون، ومعدل السكري وبعض العلامات الحيوية، يعلب دورا أساسيا في الحد من مخاطر الأمراض المزمنة والوقاية منها.
وعليه، فإذا ما استثنينا العلاج التدخلي الجراحي أو علاج الامراض السارية (المعدية) باستخدام المضادات الحيوية، فالتدخل العلاجي والرعاية الصحية التقليدية المتعارف عليها اليوم لمكافحة الامراض المزمنة (غير السارية)، تبدأ غالبا بعد ظهور اعراض وعلامات المرض بدلا من التنبؤ به قبل حدوثه، ومن ثم اتخاذ الاساليب والاجراءات التفاعلية (منهجية الفعل ورد الفعل) لمنعه، وهذا يؤدي، أي النهج التفاعلي، إلى تحديات جسيمة على غرار العبئ الكبير من حيث التكلفة الباهضة في إدارة وتشغيل أنظمة الرعاية الصحية دون نتائج ومخرجات علاجية مرضية. فالمنهج الطبي الحالي يسلط الضوء بشدة على المرض لا العافية. ونتيجة لذلك فإن جوهر انظمة الرعاية الصحية الحالية هو النهج التفاعلي، بمعني ان النظام الصحي يظل ينتظر ويترقب بأن يصاب الفرد بمرض ما بعد ظهور اعراض مرضية حاده عليه لكي يقوم بعدها بالتفاعل والتدخل لإجراء رد فعل تصحيحي. المستفيد من هذا النهج التفاعلي، في الحقيقة، هم الأفراد المرضى الذين يعانون من الحالات المرضية الحادة، كالأمراض السارية المعدية أو الحوادث والاصابات التي تتطلب تدخلا جراحيا، بينما لا يستفيد الأفراد الأصحاء كثيرا من هذا النهج في تعزيز صحتهم وعافيتهم. فبسبب ان النموذج يهتم برعاية الأمراض فقط. لذا، يمكن وصفه، على اي حال، بأنه نظام "رعاية المرض" ''Illness care'' ، وليس نظام "رعاية الصحة" ''Health care'' .ولئن تعددت أسباب عدم التغلب على هذه التحديات، فإن الأهم من ذلك، هو التعقيدات الجوهرية البيولوجية والجزيئية للجسم البشري والأمراض التي تتمظهر فيه، وضعف الطرق البحثية للإحاطة بكنه هذه التعقيدات وسبر غورها. لذا يمكن النظر إلى جوهر المرض على أنه اضطرابات (perturbations) في شبكات متعددة الوجوه على عدة مستويات، منها الجينومية، والجزيئية، والخلوية المتكاملة، بالإضافة إلى التأثيرات الناجمة عن العوامل البيئية، والمعلومات الدقيقة الخاصة بسلوك ونمط حياة الفرد اليومية، بالإضافة إلى نجاح أو اخفاق علاقاته الاجتماعية المتنوعة. هذه الشبكات المتداخلة المعقدة من التفاعلات متعددة الأبعاد على المستوى الزمني والمكاني، والتي تتباين أيضا في مجموعات فرعية من المصابين الذين لديهم نفس الأمراض والأعراض. هذا التعقيد االكامن يتطلب نهجا جديدا لمواجهة التحديات المرتبطة بالأمراض والتصدي لها ومنع حدوثها، وهذا لا يتم إلا من خلال تعزيز الصحة (العافية) والحفاظ عليها، وذلك بإبتكار وتأصيل طرق ومناهج جديدة للحفاظ على نمط حياة صحي متزن لكل فرد من أفراد المجتمع يكون منسجما مع وسطه الإجتماعي ومحاطا ببيئة صديقة (العافية الشخصية أو شخصنة العافية).
لقد أسفر التقدم الهائل في علوم الجينوم الطبي وغيره من المجالات البيولوجية والتكنولوجية الاخرى في العقد الماضي عن توفر أحجام وأرقام ضخمة، لم يسبق لها مثيل، من البيانات المعقدة المتاحة الآن. وتتنوع هذه البيانات الهامة بتنوع مستوياتها الزمنية اللحظية والمكانية المختلفة، بدأ من البيانات البيولوجية والوراثية المعقدة لكل إنسان (البصمة الوراثية)، مرورا بالبيانات البيئية المحيطة به، بالاضافة إلى البيانات الخاصة بسلوكه ونمط حياته اليومي المتمثل في نهج الاكل والشرب، ونوع الطعام، والنوم، وممارسة الرياضة، مرورا بشبكات تواصله الاجتماعي (الحقيقي والإفتراضي)، وصحته النفسية والعقلية، انتهاء بإيمانه وممارسة شعائره الدينية من عدمه. تلك البيانات الهامة (شبكة البيانات المعقدة) تلعب دورا محوريا في مساعدة الأطباء، وصناع القرار، والعاملين في القطاع الصحي على توفير رعاية صحية لمرضاهم تكون أكثر دقة، وتنبؤية، ووقائية (الطب الاستباقي ، الطب المنظومي) من طرق استخدام الطب التقليدي (الطب التفاعلي) المعمول به حاليا، مع تمكين المريض من المشاركة في النهج العلاجي المرسوم له.
وعليه، فتأسيس منهج يعزز عافية الأفراد وديمومتها سيستفيد من مخرجات الطب المنظومي ويتجاوز قصوره باعتماد مقاربة أكثر تكاملا وانسجاما كمفهوم جديد للعافية والرعاية الصحية الإستباقية من خلال نهج تكاملي ومقاربة شاملة. إذ أن فهم أبعاد ومقومات الصحة والعافية بمفهوم منظومي والتعاطي الإستباقي والفعال مع المرض يعتمد على تطوير وابتكار مناهج بحثية و آليات سريرية وسلوكية شخصية متكاملة لاستدامة العافية وتقليص العوامل الممهدة بظهور المرض.
فالخبرات المطلوبة لإدارة وفهم هذا الكم الهائل لشبكة البيانات المعقده على مستويات مختلفة يكمن، بالضرورة في مشاركة وتفاعل مجالات وحقول تخصصية علمية اخرى من خارج حقول العلوم الطبية المتنوعة (تقنية المعلومات، الذكاء الإصطناعي، علوم البيئة، التغذية، التخصصات الرياضية، الدراسات الإسلامية، اللغة العربية، وغيرها). وبالتالي فالتعاون متعدد التخصصات إلى جانب المنظومة الصحية الفاعلة مع ما يصاحبها من تعاون وتكامل للأدوار هو المفتاح الرئيس لايجاد منظومة رعاية صحية استباقية، فعالة ومتكاملة في العالم عموما وفي ليبيا خصوصا.