استدراك عن "الحديد" في سياق ثنائية الجينوم والإكسبوزوم A review of “Iron” in the context of dual genome and exposome

استشهدنا في مقال "الجينوم أم الإكسبوزوم: أين يكمن الحل في علاج الأمراض المزمنة؟" ببعض الومضات والإشعاعات من آيات القرآن الحكيم، وقلنا إن القرآن تعرض لذكر الإكسبوزوم بطرق وأساليب وسياقات متنوعة وبديعة أكثر من تعرضه لذكر الجينوم. وقد استدللنا ببعض الآيات لتوضيح هذا الأمر، وتوضيح أثر الإكسبوزوم على الجينوم. ومن ضمن ما ذكرناه مسألة إنزال عنصر مادة الحديد على الأرض في قوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ)، وقلنا إن هذه الآية تشير إلى أن الحديد أنْزل من عند الله، وأنه لا يحمل الطبيعية الطينية الترابية للأرض، وما ينبت فيها، بما فيها الإنسان لقوله تعالى: (وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا). فالكائنات الحيّة المتعايشة على كوكب الأرض (إنسان – حيوان – نبات) مادةُ خلْقها طينيّة ترابية جوهرها الـ DNA، والحديد مركّب لا فلزي هجين بالنسبة للمادة الطينية. ونحن نرى أن الهجانة بين الترابي الطيني، والحديد الفلزاتي هو هجين مُمْرض، لقوله في حق الحديد "فيه بأس شديد". وقد ذكرت كلمة "البأس" في عدة مواقع في القرآن الكريم، وكذلك في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم. وقد حملت كلمة "البأس" معاني عدة، أهمها لخّصت في المعاني التالية: القوة والشدة: كالشجاعة والقوة في القتال أو الحرب. الابتلاء والمحن: كالأمراض والمصائب التي تُصيب الإنسان. عقاب الله: شدة العذاب الإلهي في الدنيا أو الآخرة. الصبر والثبات: في مواجهة البلاء أو الأعداء. وأخيرا الإفساد: كالقوة المستخدمة في الظلم أو التخريب. وجاءت كلمة "البأس" بمعنى المرض في الحديث الصحيح "اللهم رب الناس، أذهب البأس، اشفي أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك". ولكن ما يتبادر إلى أغلب أذهان الناس إلى أن كلمة "البأس" التي جاءت في سياق الآية السابقة تعني القوّة، وهو معنى صحيح في مجمله. بينما نحن نرى العكس تماما، أي أن "البأس" هنا جاءت بمعنى "المرض"، أي فيه مرض شديد، ليعقبها بقوله: ومنافع للناس. بمعنى، على الرغم من أن الحديد يحمل في كنهه وطبيعته المرض (البأس الشديد) للكائن الحي الترابي، إلا أن فيه منافع لهم أيضا. وقديما في اللغة الهيروغليفية يقال إن الحديد نزل من السماء، ويسمى الحديد النيزكي، جاء من نيزك سماوي.

وهذا في رأينا يفسّر بعض ما حل بالبشرية في القرنين الماضيين من أمراض مزمنة لم تكن في أسلافنا، وذلك عندما انتقلت البشرية من اكسبوزوم زراعي طبيعي إلى اكسبوزوم صناعي مصنّع معلّب جوهره انتشار "الآلة الحديدية" لتحل محل، وتزاحم الإنسان اليدوي والحيوانات في زيادة الإنتاج في صور شتى من مجالات الإعمار والاستخلاف في الأرض ليدخل الحديد تقريبا في كل مجالات الحياة بدأ بالمباني والإنشاءات العقارية، والطرق والجسور، والأبراج، والمصانع، والمواصلات، والتسليح العسكري، الخ، ليصبح الحديد (الآلة) هو الرافعة أو جوهر ولب الثورة الصناعية، التي من خلالها تحول الإنسان من الزراعة إلى التصنيع، فأصبح كل شيء مصنع، وهذا السياق الإكسبوزومي الصّناعي أدى دورا رئيسا في انتشار الأمراض المزمنة، مع ملاحظة أن البشرية لم تتعامل مع الحديد من قبل بالكمية والضخامة والحجم الذي تعاملت معه البشرية اليوم، وخصوصا في القرنين الأخيرين. فالحديد استخدم منذ القدم، وعرفته البشرية عبر العصور، ولكن بصور بسيطة لاحتياجه لدرجات حرارة عالية للحصول عليه نقي، حتى يكتسب القوة والصلادة، وهذه الآليات والأفران الحديثة لصهر الحديد لم تكن متوفرة سابقا، لذلك استخدمت قديما بدائل أخرى له تعوّضه كالنّحاس والزّنك والذّهب كمركّبات كيميائية فلزية أكثر استخداما في العصور القديمة مقارنة بعنصر الحديد الذي استخدم في مجالات ضيقة وبكميات محدودة. كما أن الحديد يتطلب تخزينا خاصا كي لا يصدأ، وكثير من الأحافير كانت من الذهب والفضة والنحاس والزنك، وقليل منها كان من الحديد لصعوبة حفظه.

وفي العقود الأخيرة، ونظرا لازدياد معدل حرارة الكون نتيجة للاحتباس الحراري جراء انبعاث الغازات الدفينة (الكربون والميثان)، وانتشار ظاهرة التصحُّر، والجفاف، والحرائق في بعض المناطق، وكثرة الفيضانات والأعاصير في مناطق أخرى، واضطرابات في التنوع البيئي هنا وهناك، ودخول كوكب الأرض في حالة يمكن وصفها بالمرض الكوني (global sickness)، ليدق ناقوس الخطر حاثا دول العالم لعقد مؤتمرات سنوية تحت مسمى "مؤتمر الأطراف" (COP) كهيئة عليا لاتخاذ القرارات في الاتفاقيات البيئية الدولية، حيث يجتمع ممثلو الدول الأعضاء لمراجعة تنفيذ الاتفاقية واتخاذ القرارات اللازمة لتعزيز فعاليتها. وتتناول قضايا بيئية حيوية مثل تغير المناخ، التصحر، والتنوع البيولوجي. ومن أهم العوامل المساعدة في أبحاث البيئة هو إدخال التقنية في كل المجالات والحقول العلمية للعمل على تخفيف وطأة هذا المرض الفتاك بالبيئة. ومن أهم الأطروحات التي تتداول على طاولة مؤتمر الأطراف هي الجهود العالمية الرامية إلى تحويل الاقتصاد الحالي من اقتصاد كربوني إلى اقتصاد خال من الكربون (decarbonizing economy)، من خلال جهود متنوعة تتراوح بين كهربة المنازل والمصانع والعقارات وقطاع المواصلات من خلال الطاقات البديلة، وأيضا من خلال إنتاج الوقود الحيوي، وكذلك العمل على إيجاد حلول لإنتاج الأسمنت الأخضر، والحديد الأخضر. والأخضر هنا تشير إلى طرق إنتاج الحديد والإسمنت بطرق صديقة للبيئية (تبدأ من مراحل الكشف – الإنتاج - التسويق - الاستعمال) تضمن إنتاجا خال من الانبعاث الكربوني.

وقد أشارت الدراسات البيئية إلى أن إنتاج الحديد والإسْمنت واستخداماتها في القطاعات المختلفة كتصنيع مواد البناء وصيانة المباني، وفي المواصلات (النقل العام، الجوي والبحري) تشكل ما نسبته 40% من انبعاث الغازات الدفينة (غازات الاحتباس الحراري- Greenhouse gas emissions)، المسؤولة عن الأزمة الكونية الحالية. ونظرا لأن تشييد المباني يمثل استثمارا كبيرا، فإن أكثر من ثلثي المباني الموجودة حاليا ستظل موجودة في عام 2050م. كما ذكر بيل غيتس في كتابه (كيف نتجنّب كارثة المناخ - How to avoid climate disaster، (الذي صدر عام 2021م، بأن سرعة النمو الحضري مذهلة. فبحلول عام 2060م، سوف يتضاعف مخزون البناء في العالم -- وهو مقياس يأخذ في الاعتبار عدد المباني وحجمها. وهذا أشبه بإنشاء مدينة نيويورك أخرى كل شهر لمدة 40 عاما، ويرجع هذا في الأساس إلى النمو في البلدان النامية مثل الصين والهند ونيجيريا. ونحب أن نشير هنا أنه لا يستطيع أحد منا أن يتخيل مدى عمق هذا المخزون، وسرعة النمو في الإنشاءات والمباني، وأيضا في القطاعات الصناعية الأخرى المختلفة بدون وجود مادة "الحديد" بيننا. وقد أوصت معاهدة باريس وما بعدها من ملتقيات "مؤتمر الأطراف" – على سبيل المثال - إلى تبني واعتماد ممارسات المباني الخضراء التي تتجنب الانبعاثات، أو تلتقط الكربون الموجود بالفعل في البيئة بتقليل البصمة البيئية لصناعة البناء.

ختاما، لا ينكر أحدنا أن الحديد فيه منافع للناس – كما ذكر القرآن الكريم – ولكن فيه أيضا بأس شديد لهم. والذي ذهبنا إليه نحن بأنه الأمراض والمصائب. عافانا الله وإياكم.

التعليقات (0)