- · 7 friends
-
ا
- · Advanced Member
الحقيبة السوداء – (2- 3)
قلت بأنني كنت أحد طلبة مدرسة شهداء يناير الثانوية ببنغازي في الثلث الأول من الحقبة السوداء، أي أوائل عقد الثمانينات من القرن المنصرم، وتحديدا السنوات العجاف منها، وكنت ولله الحمد، من الطلبة المجتهدين. فكنت حريصا على حضور كل الدروس، وأدون كل ما في وسعي من المعلومات، ولم أتغيب عن أي درس إلا لضرورة. فقد كنت ممن يظل في الفصل الدراسي إلى نهاية الدوام دون كلل ولا ملل. فلم أكن مقتنعا بالدروس الخصوصية التي بدأت تنتشر في تلك الأيام، لأنها في ظني تجعل الطالب يعتمد على شرح المدرس، ولا يعتمد على نفسه في فهم المادة. ثم إنني بطبيعة تكويني، كنت أعشق مادتي الرياضيات والفيزياء، وهما في حقيقة الأمر أكثر ما يشغل هم الطالب في المرحلة الثانوية، لصعوبتهما بعض الشيء، وهما بطبيعة الحال من أكثر المواد التي تنتشر فيها الدروس الخصوصية. اجتهادي هذا قادني إلى أن احرص على اقتناء حقيبة (شنطة) سوداء، معروفة في تلك الفترة، عادة ما يستخدمها المدرسون - خصوصا أستاذتنا الأفاضل من مصر الشقيقة - في حفظ أوراقهم ومستنداتهم- هذا النوع من الحقائب السوداء يفتح ويغلق بنظام السحّاب (السوستة)، بحيث تتقابل السوستين في نهاية طرف الحقيبة لإحكام غلقها. من مزايا تصميم تلك الحقائب هو أن الطالب يستطيع غلقها بشكل محكم، وذلك باستخدام قفل ومفتاح. الحقيقة إن ظاهرة غلق الحقيبة بقفل لم يكن أسلوبا متبعا لدى الطلبة، إلا في عدد قليل منهم، أنا أحدهم. فعادة ما احرص على غلق حقيبتي السوداء باستخدام قفل قوي يصعب معه فتح الحقيبة إلا باستخدام المفتاح المناسب لها. كنت أحرص على غلقها بالقفل أثناء فترة الاستراحة، وأثناء ذهابي إلى المدرسة وعودتي منها. طبعا أنا هنا أتحدث عن سنة أولى ثانوي.
طبيعة تلك الحقبة السوداء انعكست سلبا على نظام الدراسة عموما، بحيث انتشرت في حينها حمى الشعب المسلح، وشعاراتها البائسة: الشعب المسلح غير قابل للهزيمة!! للحصار!! للتجويع!!. شعارات سقطت في هاوية وادي الدوم، ودفنت مع رفات الليبيين الذين جرجروا بالسلاسل قسرا، لخوض حروب لا ناقة لهم فيها ولا جمل. قلت إن نظام الدراسة كان متوترا باعتماد مصطلح الثكنة بدلا عن المدرسة، فكانت المدرسة أشبه بمعسكرات الذل والهوان منها إلى مدارس التربية والتعليم. ومما كان يزيد من الطين بلة في توتير وتسميم البيئة العلمية التربوية في تلك الحقبة، هو زيارات القذافي من حين إلى آخر لمدينة بنغازي، لترسيخ نظريته البائسة في عقول الطلبة والطالبات، وذلك بدعوتهم للالتقاء بهم في مدرجات جامعة قاريونس، والتنظير فيهم، والتدليس عليهم، ومن ثم بيعهم طواحين الهواء.
في صباح أحد الأيام الدراسية، وبدون إنذار مسبق، وبعنجهية جلفة، وبأحذية عسكرية صلدة، تم مداهمة جميع الفصول الدراسية، مصحوبة بأصوات مزعجة تنادي جميع الطلبة بالتجمع فورا في ساحة المدرسة، للاستعداد، وعلى وجه السرعة في حافلات معدة، للانطلاق نحو شطر جامعة قاريونس لاجتماع هام. غلب الظن على الطلبة بأن الاجتماع الهام سوف لن يتعدى مقابلة القذافي، والاستماع إلى أحاديثه الهابطة حول نظريته الثالثة العقيمة. في الحقيقة انزعجت كثيرا من هذا النداء البائس، وحرصت على الهروب من هذه الورطة، فخرجت متسللا نحو الساحة الخلفية للمدرسة، كي أخرج من خلال ثقوب في جدار المدرسة، وإذا بي أجد المدرسة محاطة بسيل من الجنود المدججين بالسلاح، لمنع تسلل الطلبة وهروبهم، مما أدى إلى محاصرة الطلبة، ورصهم في حافلات كالحيوانات الأليفة نحو حتفهم المحتوم. بعد مراوغة لم تدم طويلا، وجدت نفسي مرصوصا في حافلة مليئة بطلبة كالحة وجوههم، أغلبهم بدي متبرما من هذا المقلب، وهذه المسرحية ثقيلة الدم.
بعد مضي ساعة تقريبا، تم تفريغ حمولة الحافلات بالقرب من مدرجات كلية الاقتصاد، واستقبلنا طاقم من الغوغائيين الذين بدأوا في توجيهنا للسير نحو المدرجات لحضور الاجتماع الهام!!. إلى آخر لحظة كنت مصرا على عدم حضور هذا الاجتماع البائس، فتحدثت مع أحد أصدقائي، وهو كعادته يبغض النظام، واتفقنا على عدم الحضور، وأن نقضي الوقت في التجوال بحرم الجامعة، إلى أن ينتهي الاجتماع المزعوم، ونعود من حيث أتينا. قبل أن ننسحب بعيدا عن ساحة التجمع، استأذنني أكثر من صديق بأن أضع كتبهم المدرسية في حقيبتي السوداء، التي ترافقني - كما أسلفت - في حلي وترحالي، لكي يطمئنوا على سلامتها من التلف في الزحمة غير المسبوقة التي كانت تعج بها ساحات الجامعة، إذ تبين لي بأن الاجتماع لم يكن مقتصرا على طلبة شهداء يناير فقط، بل تعداه ليشمل جميع طلبة وطالبات المدارس الثانوية، وطلبة وطالبات الجامعة أيضا. أي بمعنى، أن الازدحام كان غاية في الكثرة، يعلوه الهرج والمرج، ومن هنا استطعنا الانسحاب صامتين من تلك الجلبة، أنا وصديقي، بعد أن غصت حقيبتي السوداء، بعدد لا بأس به من الكتب المدرسية لأصدقائي الطلبة، حتى إنني وبصعوبة استطعت إحكام إغلاقها بالقفل إياه.
تجولت أنا وزميلي بعيدا عن مدرجات الهرج لأكثر من ساعة تقريبا نتجاذب أطراف الحديث في مواضيع شتى، لنشعر بعدها بقلق يساورنا، لأن الجامعة بدت لنا خاوية على عروشها، فقد أيقنا بأن تجوالنا هذا قد يصبح مصدر خطر علينا، وأن تجوالنا غير المبرر هذا، قد يجر علينا المشاكل التي لا قبل لنا بها، وندخل في سين وجيم، إذا ما تم رصدنا من قبل الغوغاء، عناصر اللجان الثورية. لذا تناقشت مع صديقي عن مصدر هذا الخطر، فاتفقنا على العودة فورا، ودخول قاعة المدرجات لحضور المحاضرة، لننغمس بين كتل الطلبة، كي نبعد شبهة التطرف عن حضور محاضرة القذافي.
عند الباب الرئيسي لمجمع قاعات المحاضرات، لاحظنا أكوام هائلة من الكتب، والأدوات المدرسية المترامية بطريقة عشوائية عنده، فأيقنا على الفور منع دخول الأدوات المدرسية إلى قاعات المحاضرات. قبل اقترابنا من الباب الرئيسي اخترت أنا وصديقي زاوية معينة، وضعنا بها الحقيبة السوداء على أمل أن تنتهي المحاضرة الهابطة على نحو سريع، كي نرجع لاقتناء حقيبتي السوداء المقفلة بشكل محكم، وما تحمل من حمل بعير من كتب وأدوات مدرسية لي ولزملائي الطلبة. عند المدخل أخضعنا لتفتيش شخصي دقيق من قبل كتيبة الأمن، التي يعلو وجوه أصحابها مسحة من العنجهية والكبر.
دلفنا إلى إحدى المدرجات المرصوصة بالطلبة، وجلسنا في آخره، لقدومنا متأخرا بعض الشيء. لاحظنا أن الطلبة لا يعيرون اهتماما لمحاضرة القذافي عبر شاشة كبيرة داخل المدرج، وذلك بإطلاق أصوات صفير من أفواههم علامة على تبرمهم من هذا الاجتماع، فأخذ أعضاء اللجان الثورية يطلقون النصائح أحيانا، والتهديدات أحيانا، لإرغامنا على الصمت والهدوء، والاستماع بتمعن لكلام سيدهم الذي علمهم السحر. ومن الشخصيات التي كانت حاضرة، ومجتهدة في توجيهنا لسماع المحاضرة، شخص يدعى على بوجازية، وهو أحد عتاة اللجان الثورية المعروفين. ،،، يتبع،