·   ·  30 posts
  •  ·  7 friends
  • ا

    8 followers
  •  ·  Moderator

بين الفكرة المبتكرة والمُنتَج: حفرة الموت Amid the Innovative Idea and Product: Valley of Death - (VoD)

يمر العالم اليوم، ويموج بسياقات كونية معقدة غير مسبوقة على كل المستويات (معرفية - اقتصادية – اجتماعية – أمنية، الخ) تتمظهر بعضها في السباق المحموم غير المسبوق في الجوانب الاقتصادية خاصة، والمتمثلة في التنافسية العالية بين الأمم في إنتاج المعرفة وامتلاكها، ومن ثم ترجمتها إلى تقنيات ومنتجات متنوعة في المجالات الطبية، والتعليمية، والرقمية، والزراعية، والسيبرانية، والعسكرية، وغيرها ليستفيد منها الإنسان أينما وجد، والتي غالبا ما يشار إليها بمصطلح "– knowledge based economy إقتصاد المعرفة". 

هذه السياقات البيئية المعقدة تعرف بـ "عالم فوكا" "VUCA world"، وهي اختصار للكلمات التالية: Volatility, Uncertainty, Complexity and Ambiguity، والتي تعني عالم (متطاير، غير مؤكد، معقد، وغامض). بمعنى سياقات بيئية ديناميكية يصعب معها توقع مستقبلها اللحظي الزمني. بيئات وسياقات وتحالفات وشبكات كونية متغيرة ومتحولة غير ثابتة تصعد وتزدهر فيها أمم وحضارات كما تهبط فيها أخرى وتختفي. صعود الحضارات وهبوطها قد يتطلب مسارا زمنيا طويلا نوعا ما، مقارنة بصعود وهبوط معارف وأفكار ومنتجات وابتكارات من حين لآخر. 

ومن أكثر ما يميز "عالم فوكا" اليوم مقارنة بالعوالم الغابرة القريبة والبعيدة معا، هو تضاعف المعرفة بسرعة هائلة تصل إلى كل 18 ساعة تقريبا من الزمن، مع توفر شبكات تواصل واتصالات عالمية قوية متاحة للجميع، بالإضافة لتقارب المسافات بين الأمم من خلال وسائل النقل المتنوعة. فاقتصاد المعرفة يتأثر تأثرا ملحوظا بهذه البيئة الكونية "المتطايرة، المعقدة، المبهمة الغامضة" فلا يستطيع أحد مهما بلغ من العلم والمعرفة من أن يتوقع فشل أو نجاح فكرة مبتكرة ما، ونموها ومن ثم تحولها إلى منتج صناعي تطبيقي يستفيد منه الناس. 

فالقطاعات التعليمية البحثية المتمثلة في مراكز البحث والتطوير والابتكار والتي غالبا ما تحتضنها الجامعات والمعاهد الأكاديمية الوطنية والعالمية، تصرف الأموال الطائلة لجلب واجتذاب العقول العلمية المبتكرة من شتى بقاع الأرض، بالإضافة لتأسيس البنى التحتية للمعامل والمختبرات في العلوم التطبيقة المختلفة غايتها هو تدوير عجلة الاقتصاد المعرفي لديها، ومن ثم الدخول إلى عالم التنافسية للحصول على أعلى المراتب لمؤشر التنافسية العالمي (Global Competitiveness Index)، الذي يصدره منتدى الاقتصاد العالمي منذ عام 2004، والذي تصدرته سنغافورة عام 2019، كما تصدرته سويسرا لفترات متعاقبة. 

هذه المقدمة تحيلنا إلى دراسة ظاهرة احتمالية نجاح الأفكار المبتكرة أو فشلها في العلوم المختلفة من خلال التعرف على ''حفرة الموت'' (Valley of Death)، وهي الحفرة أو الهوة التي تدفن فيها الأفكار المبتكرة والمكتشفة من خلال إجراء البحوث الأساسية والتطبيقة إلى الأبد ولا يكتب لها النجاح أو الظهور للعلن. ويطلق عليها أيضا (هوة الموت أو وادي الموت). وقد برز هذا المصطلح "حفرة الموت" عام 2000م، وقد خضع إلى تعريفات عديدة من قبل الباحثين والعلماء والمهتمين بقطاع الإنتاج الصناعي التقني المعرفي المتنوع. ولكن يمكننا الاستئناس بالتعريف التالي: فحفرة الموت تعرف بأنها الفترة الزمنية التي تتوسط المسافة بين بداية العمل على الفكرة المبتكرة في مراكز البحث والتطوير والابتكار (غالبا في مراكز البحوث بالجامعات الأكاديمية الحكومية أو الخاصة) إلى بداية الفترة الزمنية التي تخرج فيها الفكرة في صورة منتج مصنع يتم تتجيره (commercialized) في الأسواق المحلية والعالمية، وهذه الأخيرة من عملية الإنتاج والتتجير للفكرة المبتكرة الخارجة من الرحم الأكاديمي عادة ما تحتضن من قبل القطاعات الصناعية الحكومية والخاصة. 

والجدير بالتنويه إليه هنا أن حفرة أو هوة الموت هذه تتباين وتختلف من قطاع صناعي معرفي إلى قطاع صناعي معرفي آخر. فحفرة الموت في مجال إنتاج التقنية الطبية، تختلف عن حفرة الموت في مجال إنتاج التقنية العسكرية أو التقنية الرقمية، أو التقنية الصناعية، أو تقنية الروبوتات، وهكذا دواليك. 

ولكي يتم تدوير عجلة اقتصاد المعرفة لديها والدخول إلى عالم التنافسية الصعب، تسعى الدول والأمم المنتجة للاقتصاد المعرفي إلى التأكد من استعدادها التام (readiness) في مجال الإنتاج وذلك بتوفير التشريعات القانونية الداعمة للبحث والتطوير، مع توفير التمويل اللازم لدعم البحوث الابتكارية في القطاعات المختلفة، كما تولي اهتماما خاصا بالتعاون الوطني، وكذلك عقد التحالفات العالمية في المعارف المختلفة. وبالإضافة لحرصها على كل ما ذكر، فإنها تعمل جاهدة على تجسير أو ردم حفرة الموت (وادي الموت) هذه على حسب الإنتاج التقني الابتكاري المطلوب، بحيث تنتقل الفكرة المبتكرة في مراكز البحوث والتطوير بالجامعات الأكاديمية لتقفز بسرعة دون المرور بوادي الموت – أي بمعنى قبل أن تدفن - لتصل إلى القطاع الصناعي من أجل إنتاجها وتسويقها والحصول على المنافع والأرباح المالية الطائلة، ليتم إعادة استثمار هذه العوائد في إنتاج معارف ومنتجات أخرى من خلال دوران عجلة الاقتصاد المعرفي غايتها القصوى هو ازدهار شعوبها ورفاههم ورفعتهم. 

لكن تظل عملية تجسير هوة الموت أو ردمها ليس بالعمل الهين، فهي أيضا عملية معقدة لا تقل تعقيدا عن عملية إنتاج الفكرة وتحولها إلى منتج صناعي تقني. فردم وادي الموت في قطاع علمي ما يتطلب تفكيرا مبتكرا هو أيضا. ولذلك سعت الجامعات البحثية العالمية إلى عقد شراكات مع القطاع الصناعي لدراسة هذه الظاهرة، والعمل على تجسيرها أو ردمها إذا أمكن. ومن الخطوات العملية التي اتخذت في هذا الاتجاه هو عقد المؤتمرات والفعاليات العلمية لمناقشة ظاهرة VoD، وقد خرجت توصيات كثيرة ومهمة في هذا الاتجاه يمكن الإشارة إليها بالإجراءات المهمة على كل مستوى من مستويات العملية الإنتاجية بدء من الفكرة إلى توزيع المنتج، يمكن تلخيصها فى المستويات التالية: 

على مستوى الفريق البحثي (research team)، على مستوى الفكرة المبتكرة (innovative idea)، على مستوى النموذج المبدئي (prototype)، على مستوى براءة الاختراع (patent)، على مستوى الملكية الفكرية (intellectual property)، على مستوى التسويق الفكرةcommercialization) ) على مستوى الإنتاج (production)، وهلم جرا. 

فمثلا على مستوى الفكرة الابتكارية في أي قطاع من القطاعات المعرفية الاقتصادية المختلفة يتم دراسة جدوى إذا الفكرة المراد البحث فيها وإثباتها يمكن لها أن تتحول إلى منتج صناعي، فإذا بينت وأثبتت دراسة الجدوى أن الفكرة المبتكرة غير قابلة للتسويق، فلا يتم دعمها ابتداء، وهكذا دواليك. 

إذا هي سلسلة متوالية من عمليات البحث والتطوير والمعاينة لأي فكرة ابتكارية في أي قطاع معرفي ما. ولتسليط الضوء أكثر عن أسباب فشل ردم حفر الموت التي تدفن فيها الأفكار الابتكارية والرؤى الاستراتيجية إلى الأبد، يمكن تلخيصها في الأسباب المشتركة التالية: 

- نقص التمويل الكلي أو فراغات تمويلية تخترق ثنايا سلسلة الإنتاج (من الفكرة إلى التسويق)، نقص أو فراغ في البنى التحتية، ضعف أو غياب التعاون المحلي بين القطاعات المختلفة مع انخفاض أو انعدام التعاون الدولي في القطاع المعرفي، بيئة غير داعمة تتسم بالبيروقراطية الإدارية المعرقلة القاتلة، افتقار الجامعات البحثية لمكاتب متخصصة في نقل التقنية (technology transfer offices ( (TTOs)، نقص أو غياب العقول الريادية الملهمة للأفكار الابتكارية، وذات الكفاءة في التخصصات العلمية المختلفة، نقص أو غياب الأيدي الماهرة في التصنيع، بالإضافة لغياب المتخصصين والمهرة في ريادة الأعمال (entrepreneurship) والتجارة والتسويق. 

هذه بعض الأسباب التي أشارت إليها بعض البحوث العلمية المهتمة بدراسة ظاهرة موت الأفكار ودفنها في حفرة الموت.

 في تصوري أن موضوع "حفرة الموت" وآليات تجسيرها أو ردمها أعمق وأعقد من أن تحيط به هذه المقالة المتواضعة، لكنها محاولة بسيطة لتنوير القارئ في هكذ مواضيع تشغل بال أصحاب الهمم العالية من صناع الحياة أينما وجدوا. فوادي الموت (VoD) من المواضيع المهمة الحساسة التي يجب أن يسلط عليه الضوء في بلداننا المتأخرة عن ركب الحضارة، والعمل في سباق مع الزمن لحل هذه السلسلة المتوالية من الإخفاقات للنهوض والالتحاق بركب الأمم الصناعية المتقدمة في عالم ديناميكي متغير، لما لا،، وما ذلك على الله بعزيز.

💓 1
Comments (2)
    • رائع!!! مادة دسمة وفيرة ومفيدة جدًا. بارك الله فيك عبد الباسط على كتابة هذه التدوينة بأسلوب مبسط وجذاب وسلس. أفادك الله كما أفدتنا. 

      • بارك الله فيك عبدالباسط جميل جدا 

        • 1
        Login or Join to comment.