·   ·  30 posts
  •  ·  7 friends
  • ا

    8 followers
  •  ·  Moderator

تسليع البحث العلمي

Scientific Research Commodification

على حسب علمي، لم تشهد البشرية تطورا في العلوم والابتكارات والاكتشافات كما تشهده الحقبة التاريخية اليوم، وهي مرشحة للمزيد. فقد تطوّرت تقريبا أغلب المجالات العلمية - وفي جميع التخصصات - ابتداء من الأبحاث والمشاريع الموجهة نحو التقنية متناهية الصغر (nanotechnology) ، وحتى ما دون ذلك من ميكانيكا الكم (quantum mechanics) وانتهاء بمشاريع غزو الفضاء واستكشافه (space exploration projects) للتعرف على الكواكب الأخرى بدافع الفضول الفطري الإنساني وإمكانية الاستفادة منها. وهذا التقسيم الرأسي/الطولي يعتمد الحجم (متناهياً في الصغر – متناهياً في الكبر) لمجالات البحث العلمي التطبيقي. أما التقسيم الأفقي فيشمل كل الحقول والتخصصات العلمية والأدبية والإنسانية المتنوعة، والتي يصعب حصرها. لكن أحب أن ألفت انتباه القارئ الكريم إلى أن هذه المقالة معنية بالنشر العلمي في التخصصات العلمية التطبيقية لا الحقول الأدبية والإنسانية. ومما لا شك فيه أن المجتمعات والأمم والحضارات لا ترقى وتزدهر إلا من خلال بوابتي "العلم والأخلاق". فالعلم هو المحرّك أو الرّافعة التي من خلالها يتم النهوض بالأمم، بينما الأخلاق (الصدق – الأمانة - النّزاهة) هي السّياج الذي من خلاله يتم الحفاظ على هذا النهوض واستمراره. فكلاهما ضروري في عملية النهوض والنمو والازدهار الحضاري. ولكي يتم نقل المعارف العلمية بين الأجيال السابقة واللاحقة (التراكم المعرفي)، وبين الأمم والشعوب المتزامنة (التبادل المعرفي) لابد من وجود آلية تساعد على هكذا أمر. وهذه الآلية تعرف في الوسط الأكاديمي بالتدوين والنشر العلمي من خلال أوعية نشر متنوعة. فالتدوين هو المرحلة الأولى الأهم في عملية البحث العلمي، وفيها يتم كتابة البيانات والمعلومات الخاصة بعملية البحث، وهي ثمرة المجهود الكبير الذي يبذله الباحث أو المجموعة البحثية لدراساتهم وتجاربهم العملية قبل الإعلان عنها ونشرها. والتدوين يتم إما بالطرق التقليدية أو بالطرق الحديثة (الرقمية). أما النشر العلمي فيعرّف بأنه عملية نشر وتعميم وبث وإشاعة كل ما يستجد من أفكار وعلوم وابتكارات واكتشافات في الحقول والتخصصات العلمية المختلفة في صورة (مقالات - أبحاث - أوراق، - وثائق- ملفات) علمية يقوم بها شخص أو مجموعة بحثية تتقن تخصّصها العلمي ولغة التخصّص. والإنتاج العلمي والابتكاري تسبقه مرحلة مهمة - قبل نشره – يخضع فيها لعملية فحص وتدقيق ومراجعة من قبل متخصّصين ومستشارين في عين التخصّص للتأكد من صحته ونزاهته، كما يخضع أيضا للنقد والدحض سواء بسواء. وفي المقابل، تتنوع أوعية النشر العلمي بحسب المجال أو التخصّص العلمي لتشمل المجلّات العلمية، والدوريات، والكتب، والمواقع الإلكترونية وغيرها. وموضوعة أوعية النشر العلمي والتصنيفات الأكاديمية والعلمية للدوريات والمجلات المُحكّمة وغير المُحكّمة وديناميكيتها من حيث صعودها وهبوطها موضوع تخصّصي معقّد ومتطوّر لن نتطرق إليه في هذه المقالة، ويمكن أن يُبْحث فيه من مظانّه المعروفة. لكن بإيجاز، وفي ظل وجود قواعد بيانات عالمية مثل (ISI أو SCOPUS) مهمتها تصنيف المجلّات العلمية المحكّمة، فإن أمر الاطلاع على قوة المجلة ومعامل تأثيرها (impact factor) ممكن وميسّر من خلال البحث في قواعد البيانات هذه بذكر اسم المجلة المراد معرفة التفاصيل حولها. ويظل التصنيف العلمي لأوعية النشر المختلفة مهماً في معرفة معامل تأثير هذه الأوعية وكذلك أفضليتها من حيث وثوقيتها (قوية – ضعيفة)، لتساعد طلبة الدراسات العليا والباحثين والعلماء للسعي نحو نشر أفكارهم ورؤاهم وعلومهم وابتكاراتهم في تلك الأوعية الموثوقة ذات معامل تأثير عال (high IF). وفي السنوات الأخيرة برز التصنيف الربيّعي  (Q1,Q2, Q3,Q4)، للمجلات المحكّمة بحيث تصنّف الأوراق العلمية المنشورة في مجلات Q1 على أنها الأعلى تأثيرا مقابل تصنيف Q4 الأقل تأثيرا.

بعد هذا التقديم، يمكن لنا التعبير عن كل ما سبق بصك مصطلح: "صناعة النشر العلمي"، ففي الحقيقة أصبح النشر العلمي صناعة – بكل ما تعني هذه الكلمة من معنى - لتشق طريقها وتجد لها سوقا ورواجا كبيرا – غير مسبوق - في الأوساط الأكاديمية والبحثية والصناعية في حقبتنا التاريخية هذه. فإذا اتفقنا على مصطلح "صناعة النشر العلمي" فإن كلمة "تسليع" لا ولن تنفك عنها أبدا. فمن البدهي والمعروف لدينا أن جوهر "النشر العلمي" وبضاعته هو المادة العلمية أو الفكرة المبتكرة المراد تسويقها ونشرها للاستفادة منها في حياة الناس، ومن ثم تصنيفها وأرشفتها لتتراكم شيئا فشيئا عبر الأجيال أو في الحقب المتزامنة في صورة " تراكم أو تبادل " معرفي تباعا، كي تنهض وتزدهر الشعوب والأمم. إذا الغاية الكبرى النّبيلة من النشر العلمي هو تمكين الإنسان من امتلاك المعرفة. فكما تصنّف أوعية النشر العلمي، تخضع المعاهد والجامعات ومراكز البحوث المحلية والعالمية التي تدار فيها عجلة البحث والإنتاج العلمي والتعليم الأكاديمي إلى التصنيف والاعتماد أيضا. وبذلك تتفاوت درجات تصنيفها من جامعة إلى أخرى، ومن معهد إلى آخر طبقا لمؤشرات عالمية تخضع لها هذه المؤسسات. وهذا التصنيف الأكاديمي للجامعات وآلياته ودواليبه وطرق اعتماده يحيلنا إلى موضوع آخر ليس هدفا لهذه المقالة إلا أنه لا ينفك عنها بالضرورة. بمعنى أن النشر العلمي (كمّا وكيْفا) يرتبط ارتباطا وثيقا بعملية تصنيف الجامعات والمؤسسات العلمية والبحثية، فهو يعتبر أحد أهم مؤشرات الأداء لدى تلك المؤسسات. فمن بين مؤشرات أداء كثيرة، يظل النشر العلمي وبراءات الاختراع في مقدمتها. وبذلك تقع المسؤولية على الباحثين والعلماء بالنهوض بمؤسساتهم التعليمية والبحثية للحصول على أعلى مراتب التصنيف العالمي للجامعات. ولهذا تحث هذه المؤسسات منسوبيها من طلبة الدراسات العليا، والباحثين، وباحثين ما بعد الدكتوراه، والعلماء وتشجعهم على النشر العلمي من خلال دعم مشاريعهم وأفكارهم البحثية بإطلاق مبادرات سنوية لدعم البحوث والابتكارات يتنافس فيها الباحثون بتقديم مقترحاتهم البحثية للحصول على دعم مالي لها. ونظرا للمنافسة القوية في سوق العلوم والمعارف العالمي، تشترط هذه المؤسسات على منسوبيها النشر العلمي كشرط أساس للحصول على الترقيات العلمية والوظيفية والإدارية. كما تمنح بعضها حوافز مالية مجزية للفريق البحثي للنشر في المجلات المصنفة ذات معامل تأثير عال. ولكن في رأي أن الحوافز المالية المباشرة للباحثين نظير إنتاجهم العلمي (نشر علمي – براءات اختراع – ترجمة، إلخ) هو سلاح ذو حدين. فبقدر ما لها من جوانب إيجابية في التحفيز على البحث والابتكار تظل لها جوانب سلبية على المدى البعيد. فمزاوجة المال بالعلم مفسدة، لما للمال من قوة وتأثير على جوهر العمل العلمي البحثي. فالمال قوة لا يستهان بها في إفساد الأشياء بقصد أو بدونه. فقد دأبت بعض الجامعات على منح مزايا ومكافاءات مالية لمنسوبيها من الباحثين عند نشرهم للأعمال البحثية العلمية المتنوعة، وهذا في تصوري قد يضر بجوهر العملية البحثية برمتها. فبدلا من أن يكون نشر العلم وتبادل المعرفة هو ديدن وجوهر عمل الباحثين والعلماء في الأوساط الأكاديمية والمراكز البحثية، يطغى أو يظل الغرض الربحي المادي هو المُوجّه الأكبر للعملية البحثية في نفوسهم.

ومما ساعد على تسليع البحث العلمي هو توجه أغلب الدول الغربية منذ بداية عقد الثمانينات من القرن الماضي وتحوّلها من جامعات منتجة للمعرفة فقط (knowledge-oriented) إلى جامعات مبتكرة (innovation-oriented)، أي توجيه البحث العلمي نحو المزيد من الابتكارات التطبيقية. وهذا التوجه فرض على الجامعات والمراكز البحثية التفكير في تأسيس وبناء شركات صغرى لريادة الأعمال. وبذلك بدأت الجامعات تتحول تدريجيا من جامعات أكاديمية خالصة تخدم العلم والمعرفة والبحث العلمي إلى جامعات تتسابق في إنشاء شركات صغرى (start-ups) وحاضنات لريادة الأعمال (entrepreneurships)، لتتزاوج أو أحيانا تتنافس مع القطاع الصناعي الإنتاجي، فانتشرت مصطلحات صناعية داخل أروقة الجامعات والمراكز البحثية لم تكن متداولة قبل عقد الثمانينات من القرن الماضي، من مثل الملكية الفكرية، مكاتب نقل التقنية (TTO)، دراسة الجدوى (feasibility study) النموذج (prototype)، المقارنة المرجعية (Benchmarking) ، التتجير والتسويق (commercialization) لكل ما ينتج عنها من أفكار ومنتجات مختلفة باختلاف المجال والتخصص العلمي.

 ففي هذا السياق التنافسي المحموم في إنتاج العلوم والمعارف - بين الجامعات ومراكز الأبحاث العالمية- وبالتالي تحوّلها إلى منتجات وصناعات مختلفة لتنتشر في الأسواق العالمية، نشطت حركة النشر العلمي والترجمة في الأوساط الأكاديمية بطريقة غير مسبوقة. فانتشرت أوعية النشر العلمي لتتسابق وتتلقّف كل ما ينتج من علوم ومعارف لتحوز وتفوز بعملية السبق في النشر والتوزيع. لكن في الحقيقة وعلى هامش هذه الحركة الإيجابية الدؤوب في النشر العلمي برزت ظواهر سلبية لا تمت لرافعتي - العلم والأخلاق – بصلة بتاتا. فقد أطلّت هذه الظواهر السلبية برأسها، وبدت تجد لها مكانا في نفوس الضعفاء ممن يحسبون على القطاع الأكاديمي البحثي. فقد انتشرت ظواهر سلبية عديدة مثل الغش والخداع والسرقات الأدبية (plagiarism) في البحث العلمي. ومنها تكونت مافيات تمتهن تجارة الأبحاث الجامعية، ليصف بعض راصدي هذه الأعمال المشينة بما يحدث بعبارة "ماجستير ودكتوراه دليفري"، وهي تفسر ظاهرة سرقة الأبحاث الجامعية المسكوت عنها منذ سنوات طويلة. لذا انتشرت وتوفرت الآن برامج حاسوبية وماسحات ضوئية مثل (ithenticate) للتحقق من الانتحال والاستلال من الأوراق العلمية المنشورة . وبذلك تشدد الكثير من الجامعات على قضية الاستلال العلمي بشراء مثل هذه البرامج وتوفيرها لباحثيها للتأكد من خلوها من الانتحال والاستلال قبل إرسالها للمراجعة والنشر في أوعية النشر المختلفة. لكن في المقابل وللأسف أيضا، برزت ظاهرة انتشار أوعية النشر العلمي المزيفة الخادعة لتصطاد الباحثين والعلماء من أجل الكسب المادي السريع، وقد أطلق عليها مصطلح المجلات المفترسة (predators)، لأنها تفترس أفكار وأموال الباحثين والعلماء وداعميهم، فهي مجلات علمية مزيفة ليس لها قواعد بيانات ولا مصنّفة تصنيفا أكاديميا، يديرها محتالون ونشّالون عالميون يدّعون زيفا العمل على نشر العلم والمعرفة. وبناء عليه، فكثير من الجامعات ومراكز الأبحاث العالمية تحذر باحثيها وأساتذتها بأخذ الحيطة، وعدم الوقوع في فخ هذه الأوعية المزيفة المفترسة. ومن الظواهر السلبية التي انتشرت في العقود الأخيرة أيضا هو النشر العلمي الكمّي (quantity) على حساب الكيْف (quality). فنتيجة لمتطلبات الترقيات العلمية والوظيفية، وأحيانا للضغوط التي تفرضها الجامعات ومراكز البحوث على باحثيها لنيل أعلى درجات التصنيف العالمي لها، اتجه كثير من الباحثين والاكاديمين للاهتمام بالنشر العلمي الكمّي دون الاهتمام بنوعية وجودة الإنتاج العلمي. مما نتج عنه انتشار الغث من المعلومات الكثيرة غير الدقيقة التي شوّشت على المحيط العلمي المنضبط الجاد. هذه المعلومات المُشوّشة (noise) التي لم تخضع لمراجعات دقيقة قبل نشرها في أوعية النشر المختلفة – خاصة ذات تأثير معامل منخفض – تحوّلت إلى مرجعية (reference) لكثير من الأعمال البحثية العلمية التي يستشهد (citation) بها الطلبة والباحثون في أبحاثهم ودراساتهم العلمية المختلفة مما يزيد من مصداقيتها في الأوساط البحثية الأكاديمية على الرغم من ضعفها وهزالتها. ومن الغريب والتبسيط المخل أيضا أن كثيراً من طلبة الدراسات العليا والباحثين في مجالات البحث العلمي يعتبرون كل ما ينشر من دراسات علمية هي في الغالب صحيحة يستشهد بها، ويتم بناء عليها فرضيات وأفكار،، قد تنتهي بأوهام. لذا نلحظ أن كثير من هذه الأعمال تنتهي وتتلاشى بمجرد نشرها ولا يرى لها أي أثر علمي أو مجتمعي على الإطلاق. قد يستفيد منها الباحث أو الباحثة فقط في ترقياتهم الأكاديمية والوظيفية، وأحيانا تعطى لهم المكافآت والحوافز المالية نظير نشرهم العلمي. وتجب الإشارة هنا إلى أن انفجار هذا الكم الهائل من أوعية النشر العلمي لملائمة كل تخصص وتخصص علمي دقيق رسّخ لمفهوم المنهج الاختزالي المقيت في البحث العلمي، وخصوصا في مجال أبحاث علوم الحياة والطب الحيوي، وهذا موضوع آخر خارج عن هدف هذه المقالة. 

أخلص وأقول بأن البحث العلمي – للأسف - أصبح مؤخّرا غير مُبرّأ من ظاهرة التسْليع التي طالت حياة الناس اليوم، والوسط الأكاديمي البحثي ليس استثناء. فأصبحت المادة والربح والخسارة هي رمانة الميزان لديهم. فشابت العلوم والمعارف - منزوعة الأخلاق - ظاهرة التسْليع كأي منتج قابل للبيع والشراء.

💓 1
Comments (3)
    • نعم للأسف حقيقة موجودة ولا يمكن أنكارها والسؤال الدي يطرح نفسة. هل الأخلاق والتربية تلعب دور في هذا الأمر؟

      • 2
      • نعم بكل تأكيد أخي الحبيب الصدّيق، فالموضوع أخلاقي بامتياز،، مربط الفرس هنا ليس العلم،، وإنما الأخلاق. فالعلم المجرد أو العلوم بالعموم ليس لها علاقة بالأخلاق بتاتا. فالعلم شئ والأخلاق شئ آخر تماما. لكن لابد من وجود الإثنين معا، العلم لتحريك عجلة النهوض والتطور ،، بينما الأخلاق لحماية هذا النهوض والتطور من الارتكاس،، فلا نمو ولا تطور ولا رقي للأمم والمجتمعات إلا بوجود الإثنين معا.

        • 3
        • نعم اخي الحبيب عبدالباسط صدقت، إنما الأمم بالأخلاق مابقيت فإن هم ذهبت اخلاقهم ذهبوا، الأخلاق والعلم لايمكن الفصل بين الاثنين للنهوض بالامم

          • 1
          Login or Join to comment.