حكمة عجوز!!!

في تسعينات القرن الماضي، عاشت امرأة مسنّة وحيدة في بيتها الصغير، بعد أن أمضت سنوات عمرها تعمل في قطاع الصحة، تحديداً في مجال النظافة. لم تحظ بفرصة التعليم، لكنها تعلمت من مدرسة الحياة ما لم يكن ليُمنَح في أرقى الجامعات. تزوّجت مرتين؛ من الأول رزقت ببنت ثم طلّقها، ومن الثاني أنجبت أيضاً بنتاً وواجهت المصير نفسه. لم يكن حظها مع الرجال جيداً، وكان المجتمع يومها ذكورياً بامتياز، لا يرى في الأنثى إلا نقصاً، فقررت أن تضع حدّاً لكل ما مضى، واعتزلت الزواج، واختارت أن تصنع كيانها بنفسها.

لم تؤمن بمقولة “ظل راجل ولا ظل حيطة”، بل آمنت بمبدأها الخاص: “قرشك الأبيض ينفعك في يومك الأسود.” عملت بجد وادّخرت من عرق جبينها، وقررت أن تبني بيتاً يضمن لها الاستقلال ويُبعدها عن تسلّط الضرائر وزوجات الإخوة. استعانت بقروض الخمسة آلاف التي عرفها الليبيون في فترة السبعينيات والثمانينات، ومع كل زيادة في دخلها، كانت تشتري “ماجارات” ذهب، تلك الجنيهات التي كانت بالنسبة لها أثمن من أي شيء.

جمعتني بها الظروف والجغرافيا، وأخذت على عاتقي مساعدتها في قضاء حوائجها، كلما سمحت لي الظروف. ومع مرور الأيام، زادت ثقتها بي. كانت تقيم في مدخل بيتها، تفترش فيه فرشتها وتعدّ الشاي وتطبخ فيه، لأنها لم تعد قادرة على الحركة بشكل جيد، وكان من يزورها لا يتعدى عتبة الباب. فإن وثقت بزائرتها، طلبت منها أن تدخل وتأتي لها بغرض من داخل البيت.

في أواخر التسعينات، شعرت بأن رحلتها أوشكت على النهاية. فبدأت تخرج بعضاً من “الماجارات” وتطلب مني أن أذهب بها إلى الصائغ وأصرفها، ثم أشتري لها ما تشتهيه من السوق. كانت تعشق “الصفائح” من المطعم التركي والبطاطا التي تقليها، وتتناولها بشهية وكأنها تحتفل بالحياة في كل لقمة.

كانت تدرك أن ما جمعته من مال سيؤول إلى الورثة، الذين يعيشون بعيداً عنها ولا يسألون عنها كثيراً. لذلك قررت أن تعيش أيامها الأخيرة كما تريد، وقالت لي ذات يوم:

“من أراد أن يعيش، عليه أن يعمل ويتعب كما فعلتُ، ولن أحرم نفسي من أجل غيري.”

آمنت أن الحياة قصيرة، وأن الكثير من الآباء يرهقون أنفسهم في سبيل أولادهم، يحرمون أنفسهم من أبسط متع الحياة، وينسون أن الله هو الرزاق لهم ولأبنائهم. ثم، حين يغيب الأب، يُقسم الميراث بين الأبناء، ولا يبقى له سوى ما تصدّق به، أو ما تمتع به في حياته.

الدنيا كما تراها، هي لحظات، ومن لم يعشها كما ينبغي، فاته الكثير.

وهكذا، علمتني تلك العجوز أن الحكمة لا تأتي بالكتب فقط، بل أحياناً من امرأة بسيطة، تحمل في قلبها دروساً تفوق ما يحمله كثير من المثقفين.

انتهى

💓 1
التعليقات (1)
    • قصة رائعة ومؤثرة وتطرح سؤال فلسفي كبير ومهم وهو:

      ماهو الحد الفاصل بين مايستحقه الورثة ومايستحقه المورِّث في حياته ؟

      طبعًا الأمر يتعلق بالموروث الدنيوي لأن موروث الآخرة (العمل الصالح) واضح ولاشك فيه. ولعل في حديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث....إلى أخر الحديث" معالم هامة للأجابة على السؤال.