- · 8 friends
-
ا
- · Advanced Member
في الرعاية الصحية: الحلول البسيطة مهمة - In Healthcare: Simple Solutions Matter
نشأت انظمة الرعاية الصّحية وتطوّرت مع تطور البشرية جمعاء، لكن ما يهمّنا حاليا هو انظمة الرعاية الصحية الحديثة التي توراثناها عبر القرون الثلاثة الأخيرة من خلال الانتاج المعرفي التراكمي والتبادلي بين الأمم نتيجة لابتكارات واكتشافات ومجهودات العلماء والخبراء في علوم الحياة وعلوم الطب الحيوي، متضمنة العلوم الهندسية وعلوم الفيزياء والكيمياء والرياضيات وغيرها. وقد لعب التعليم والبحث العلمي في مجال علوم الحياة والطب الحيوي دورا مهما في بلورة انظمة وهياكل مؤسسات الرعاية الصحية الحديثة (مستشفيات، عيادات، مختبرات طبية، وصيدليات دوائية) لتعلب دورا في الحفاظ على حياة الناس وصحتهم وذلك بمكافحة الأمراض وعلاجها. لكن تظل الأمراض المتنوعة لفتاكة ذات الأسباب الغامضة وحتى المعروفه منها التي تصيب الناس أكبر تحد وعائق يقف أمام أداء مؤسسات الرعاية الصحية لتحقيق غاياتها المرجوّة. لذا ترصد الدول والمجتمعات الأموال والميزانيات الضخمة للوصول إلى الحالة المثاليّة في تعزيز صحة الأفراد والمجتمعات والحفاظ عليها. وبناء على ما ذكر أعلاه، ومن خلال نشاط حركة البحث والتطوير والابتكار في المجالات العلمية المختلفة، ارتفع معدل متوسط عمر البشرية خلال القرنين الماضيين من عمر 45 سنة تقريبا إلى عمر 75 سنة أو أكثر بقليل في حقبتنا التاريخية اليوم. ولكن المتتبّع لمسيرة ارتفاع معدل متوسط عمر البشرية خلال القرون الأخيرة يمكن له أن يرصد أسباب عديدة أخرى لهذا النمو والارتفاع العمري للناس، يظنه البعض نتيجة حتمية للتطور الطبي الحديث المتمثل في ادارة الأمراض ومكافحتها من خلال أدوات التشخيص والعلاج المتقدمة داخل دواليب وردهات انظمة الرعاية الصحية الحديثة. لكن في حقيقة الأمر، أن هناك أسبابا أخرى عديدة ومهمة لعبت دورا محوريا في ازدياد متوسط عمر البشرية من خارج أطر أنظمة الرعاية الصحية التقليدية.
فهناك أمثلة كثيرة – من خارج أطر أنظمة الرعاية الصحية - يمكن الاستدلال بها في اثبات هذه الحقيقة لا يسعنا المقام هنا للخوض في تفاصيلها. لكن يمكننا الاستئناس ببعض الأمثلة السريعة التي يمكن استصحابها في هذا السياق من خارج انظمة الرعاية الصحية ومجال الطب الحيوي، والتي لعبت دورا مهما وكبيرا – في الماضي والحاضر - في ترسيخ المدنية وازدهار الشعوب والمجتمعات ورفاهيتها وازدياد متوسط طول عمرها بعد ان تعرضت لأمراض فتاكة وكوارث جمّة. أول هذه الأمثلة هو ما يعرف باجراء "الحجر الصحي" (Quarantine) للإنسان والحيوان وكذلك النبات ليلعب دورا كبيرا في التقليل من خطر الأمراض الفتاكة والقضاء عليها كمرض الطاعون (الموت الأسود – Black death) في القرن الرابع الميلادي. فمن خلال آليات واجراءات الحجر الصحي تم المحافظة على الأرواح البشرية في ذلك الوقت. فقد كان يحجر الناس وكذلك الحيوانات القادمة من المدن المنتشر فيها الوباء لمدة أربعين يوما في الموائي الأوروبية – على سبيل المثال - قبل السماح لها بالدخول إلى المدن الأوروبية المختلفة.
كما لا يمكننا في هذا السياق أن نتجاوز دور الممرضة البريطانية المشهورة فلورنس نايتنجال (Florence Nightingale) الملقّبة "بالسيّدة حاملة المصباح – The Lady with the Lamp" اثناء حرب القرم (Crimean War) التي دارت بين الإمبراطورية الروسية والدولة العثمانية لأطماع روسيا في الاستيلاء على شبه جزيرة القرم عام 1853. وقد تدخّلت بعض الدول الأوروبية (بريطانيا، فرنسا) والعربية (مصر، تونس) إلى جانب الدولة العثمانية وانهزمت روسيا بتوقيع اتفاقية باريس. ففي هذه الحرب المشهورة لعبت الممرضة فلورنس " السيّدة حاملة المصباح" دورا مهما في تقليل نسبة موت الجنود الجرحى الانجليز بعد تعرضهم لموجة حادة من مرض الكوليرا. حيث كان هناك نقص في إمدادات الأدوية (فالمضادات الحيوية لم تكتشف ولم تكن معروفة في حينها)، فخفّضت الممرضة البريطانية الشهيرة بشكل كبير معدلات وفيات الجنود الجرحى (من 42٪ إلى 2٪)، فمنعت العدوى الجماعية بشكل رئيسي من خلال تحسين النظافة بغسل الأيدي باستخدام الأدوات المنظّفة والمطهّرات، وتزويد الجنود بالطعام المغذّي، وتهوية الغرف التي يقطنها الجنود الجرحي متجوّلة داخلها طوال الليالي العصيبة الحالكة حاملة معها مصباح الكهرباء - وبه لقبت به - لتطمئن على حالة الجنود الصحية،. كما عملت على تقليل الازدحام بين الجرحي، وتنظيف اسطبل الخيول وابعاده عنهم.
ومن الأمثلة المهمة في تحسين حياة الناس الصحية، يمكننا الاشارة الى التلوث البيئي الذي أصاب مدينة لندن الانجليزية في القرن التاسع عشر. ففي أعقاب ثلاث أحداث مأساوية متتالية وغير مفهومة الأسباب للكوليرا في لندن، تمكن المهندس المدني جوزيف بازالجيت في عام 1859م، من ابتكار نظاما للصرف الصحي للتخلص من النفايات وفضلات السّكان التي غاصت بها مياه نهر ثايمز (River Thames)، وعانت مدينة لندن من أسوأ رائحة كريهة مرت بها في تاريخها (London’s Great Stink). فكان دور نظام الصرف الصحي الذي صمّمه المهندس بازالجيت هو الحل السّحري والحاسم لهذه القضية التي ارقت سكان لندن لفترة طويلة. فقام بازالجيت بتنظيف مياه النهر بضخ النفايات السائلة عبر عدة أنابيب متصلة، وذلك بشفط النهر والرمي بمخلّفات النهر خارج نطاق مدينة لندن، وبذلك أوقف انتقال المرض عن طريق المياه. وقد أطلق عليه المؤرّخون لقب "بطل لندن - Hero of London"، بعد نجاحه - منقطع النظير - في انقاذ لندن من أكبر مأساة صحية عصفت بها.
ودون الخوض في التفاصيل يمكن الرجوع أيضا إلى قصة ابتكار المنتجعات والبيوت الصحية (Sanatoria)، قبل اكتشاف المضادات الحيوية التي ابتكرها طالب الدكتوراة – والطبيب فيما بعد – الألماني هيرمان بريمر الذي اصيب بمرض السُّلْ الرئوي أثناء فترة دراسته لنيل شهادة الدكتوراة. وقد شفي من المرض تماما بعد ان عسكر في اعلى قمم جبال الهمالايا، وحرص على التعرض المباشر للشمس، واستنشاق الهواء النقي. وبعد نجاح فكرته المبتكرة، أسس أول مصحّة ألمانية للعلاج المنهجي لمرض السل في الهواء الطلق والتعرض لأشعة الشمس، ليتم بعدها تأسيس مفهوم المنتجع الصحي (Sanatorium)، الذي يعمل به إلى يومنا هذا في علاج الأمراض السّارية.
كما أن هناك الكثير من الأمثلة عن الاجراءات والطرق التي ساهمت في تحسين حياة الناس الصحية، وزادت من متوسط أعمارهم يمكن الرجوع إليها من مصادرها الموثوقة. لكن قبل ان نختم المقالة يجب ان نشير إلى الاجراءات والاحترازات المهمة التي اعتمدتها منظمة الصحة العالمية خلال جائحة كورونا التي داهمت العالم مع نهاية عام 2019م، لتسطيح منحنى انتشار عدوى الفيروس، ولتقليل نسبة المصابين والوفيّات. وأغلب تلك الاجراءات المتخذة - في جوهرها - هي من خارج منظومة الرعاية الصحية من مثل: الحجر المنزلي، وحظر التجوّل، والتعليم عن بعد، والعمل من خلال الانترنت، وانتشار تطبيقات توصيل الطعام والاحتياجات اليومية للناس إلى بيوتهم، والتباعد الاجتماعي، ولبس الكمّامات، ومداومة غسل اليدين، وتهوية الغرف والبيوت، والتعرض للشمس، والرياضة المنزلية، والغذاء الصحي، والنوم الكافي وغيرها من الاجراءات البسيطة – التي كما ذكرنا هي في أغلبها من خارج أطر انظمة الرعاية الصحية - لعبت دورا مهما في تسطيح منحى انتشار الفيروس والتقليل من حدته والتحكم فيه قبل تصنيع اللقاحات المناسبة له في أسرع عملية انتاج للقاحات عرفتها انظمة الرعاية الصحية نتيجة للتقدم الهائل في التقنيات الحيوية.
كما يمكن الاشارة إلى عوامل اخرى مهمة في تحسين متوسط عمر الناس وتحسين مستوى معيشتهم مثل تنقية المياه ومعالجتها بمادة الكلور (Water chlorination)، لقتل البكتيريا والفيروسات والميكروبات الأخرى في الماء، لمنع انتشار الأمراض المنقولة بالمياه. والملاحظ، بأن جل الأمثلة التي ذكرت أعلاه التي ساهمت بصورة أو بأخرى في ازدياد عمر البشرية، كما ساعدت في نماء الشعوب والأمم وازدهارها وحافظت عليها هي في الحقيقة حلول بسيطة لكنها مهمة وعملت الفارق (simple solutions matter). لكن يجب التنويه إلى أن هذه الحلول المبتكرة من خارج أطر انظمة الرعاية الصحية التقليدية ساهمت في القضاء على خطر الأمراض السّارية المُعْدية (طاعون، كوليرا،، الخ). لكن في حقيقة الأمر أن البشرية الآن تعاني من أمراض العصر ذات الأسباب الغامضة والمعقّدة، والتي يطلق عيها الأمراض المزمنة كأمراض السرطان، والقلب والشرايين، والسكري، وغيرها. هذه الأمراض المزمنة تتسبّب في موت الملايين من البشر في أعمار مبكرة (premature death) ما بين عمر الـ 30-60 عاما.
ويظل سؤال المليون دولار الذي يطرح نفسه، هل سنجد يوما ما حلولا بسيطة وسهلة لكنها تصنع الفارق في القضاء أو التقليل من خطر الإصابة بهذه الأمراض المزمنة المعقدة التي تحصد ملايين البشر سنويا وبدون ضجيج (القاتل الصامت – silent killer). إذاً، هذه دعوة مفتوحة وملحّة للتفكير في حلول بسيطة ذات أهمية تصنع الفارق في هكذا تحد كبير تعاني منه البشرية في زمننا الحالي أرّقت الشعوب واقتصاداتها. ربّما، ولم لا.
-
- · فتحي إدريس
- ·
مقالة رائعة كالعادة بسوطة. الحلول السريعة قد تكون بمحض الصدفة. كما تفضلت الأمراض المزمنة والتي تستنزف الأموال والأرواح هي الأولى بالحلول السريعة اليوم