هل هناك أزمة في المنهج العلمي للعلوم التطبيقية؟ - الجزء الثاني

هذا باختصار تعريف بسيط للعلوم التطبيقية. السؤال: أين يكمن الخلل المنهجي؟ في تصوري كثير من طلبة الدراسات العليا والباحثين والخبراء والعلماء لم يفرقوا، أو دعنا نقل انه لم تتضح الرؤية لهم بعد في التفريق بين هذه المناهج المعمول بها في حقول المعرفة اليوم، وبالتالي أشكلت عليهم كيفية  أو آلية الاستعانة بها واستخدامها ومن ثم الاستفادة منها على أرض الواقع. دعونا نقف هنا ونفصل قليلا  - مستعينين بتطبيق المنهج الإختزالي- لنتعرف أكثر عما يجب أن يلتفت إليه الباحثون في حقول المعرفة.

 القضايا أو المواد المطروحة للبحث والتفكير في دروب العلم والمعرفة والكون بأجمعه تندرج في رأيي المتواضع تحت أربعة أقسام:

 المادة الحية والمادة غير الحية، وكل منهما يتفرع إلى فرعين آخرين: ساكن ومتحرك. إذا الأنماط الناتجة عن هذا التقسيم هي: مادة حية ساكنة، مادة حية متحركة، مادة غير حية (جامدة) ساكنة، مادة غير حية متحركة. إذا بإدخال عنصري الحركة والسكون على الحي والميت تتكون هذه الأقسام الأربعة. 

هنا إذا دققنا النظر أكثر فسنجد ان احتمالية وجود مادة حية غير متحركة هو في حكم المستحيل، أي لا توجد مادة حية غير متحركة (ساكنة) لكن استخدمت هنا في التقسيم مجازا. بعد هذا التقسيم المبسط يجب ان نقر بحقيقة هامة وهي نسبية ثنائية السكون والحركة، بمعني انه لا يمكننا الحكم على جسم بأنه ساكن أو متحرك بشكل مطلق يجب أن تحدد سكونة وحركته بالنسبة لنقطة محددة.

 فالسكون يعرف على انه: عدم تغير موضع جسم ما بالنسبة لنقطة محددة بمرور الزمن، والحركة تعرف على انها: تغير موضع جسم ما بالنسبة لنقطة محددة بمرور الزمن. في تصوري أن المنهج الإختزالي يتلائم أكثر مع دراسة الظواهر  الساكنة غير المتحركة بشقيها الحي (المجازي) وغير الحي بينما المنهج الشمولي يتناسب مع دراسة الظواهر المتحركة الحية (ذات الروح) و غير الحية مثل (حركة الكون من كواكب ونجوم وعلوم الفضاء وغيرها). في المحصلة، الظواهر الساكنة تميل إلى البساطة (simplicity) بينما الظواهر المتحركة تميل إلى التعقيد  .(complexity) وما يجب أن يلفت إليه النظر بعناية هنا أن بيولوجيا الإنسان تجمع بين التعقيد والبساطة في أبهى صورة يقف الباحث والمتأمل مذهولا أمامها. 

فالتعقيد (complexity) البيولوجي للإنسان يكمن في الشبكات المتداخلة من المادة الطينية المخلوق منها الإنسان المتمثلة في الحمض النووي ومركباته الجينية المنتجة للبروتينات وغيرها من العناصر الخلوية المختلفة المتواصلة مع بعضها البعض في شبكات تواصل معقدة متفاعلة ومترابطه مع العنصر الزمني في تناغم دقيق وبديع لينتج عنها بناء الخلايا والأنسجة والأعضاء والجسم التشريحي المتكامل. والبساطة (simplicity)  تكمن في سهولة استعمال واستخدام الإنسان  (user-friendly) لهذا المركب المعقد في النمو من أكل وشرب وتنفس وتعلم وتذكر وتواصل مع الكون المحيط به. وعلى  الرغم من هذا الخلق البديع المعجز، فالإنسان المخلوق العاقل -للأسف- لم يقدر الله حق قدره. وبالعودة إلى السؤال: أين الخلل؟

 نجيب و نقول: أن الخلل يكمن في خلط المناهج العلمية المذكورة أعلاه وضرب بعضها ببعض لفهم الظواهر الحية وغير الحية. لا شك ان هناك تقدم بشري هائل غير مسبوق في حقول المعرفة والعلوم التطبيقية المنعكس في الاختراعات والتقدم التقني الهائل. لكن هذا التقدم الهائل غير المسبوق يتواجد أو يلاحظ فقط في القطاعات والمجالات غير الحية أي بمعني في كل ما هو ساكن غير حي (non-living)، مثل التقدم الهائل في الاتصالات والمواصلات والبناء والطرق وصناعة الحواسيب والهواتف النقالة، والسفن والطائرات وغيرها. وفي المقابل هناك فشل واضح وجلي ومرئي للعيان في كل ماهو مرتبط بدراسة وفهم كنه الكائنات الحية (living organisms) ذات الروح. فالأمراض المنتشرة التي تصيب الإنسان والحيوان والنبات على سبيل المثال ذات الأسباب المتعددة لم يتم علاجها والقضاء عليها بعد.

 فمنظومة الرعاية الصحية في العالم المتمثلة في المستشفيات المركزية (الحكومية والخاصة)، وشركات الأدوية وشركات التقنيات الحيوية عجزت جميعها في القضاء على الأمراض، وخصوصا الأمراض المزمنة (غير السارية)، كما نلحظ اليوم عجزها الواضح أيضا في مكافحة جائحة كورونا. فلم يتم تسجيل القضاء على مرض واحد فقط حتى يومنا هذا. بل العكس هو الصحيح، فأغلب تقارير منظمات الصحة العالمية تشير الى زيادة مضطردة في الأمراض المزمنة بالعموم، ولم يتم الى الآن القضاء عليها أو التعامل معها بمهنية وحرفية بالغة. والسبب في تصوري هو الخلل في المنهج العلمي التطبيقي في العلوم الصحية/الطبية، فالمنهج الغالب هنا هو استخدام المنهج الاختزالي ـ الذي غالبا مع يتلائم مع تشخيص الأمراض (Diagnosis) وضعف أو عدم مزاوجته مع المنهج الشمولي، الذي يتناسب مع العلاج (Treatment) وليس التشخيص لتعزيز الصحة والعافية، وذلك من خلال العمل على التضييق في انتشار الأمراض وحصرها، ومن ثم يمكن الوصول الى نسب معقولة من منع حدوث الأمراض وبالتالي تعزيز الصحة والعافية للأفراد والمجتمعات.

وأخيرا، يمكن الاستدلال على ما سبق ذكره من خلال تخصص العلوم الطبية الحيوية، فمنذ أن نشأت أنظمة الرعاية الصحية المعمول بها حاليا، تم تحسين العديد من جوانبها الهيكلية والتقنية والاقتصادية داخل معايير الرعاية الصحية الأساسية لتعزيز فعاليتها ضد الأمراض الحادة. لقد أدت التحسينات الطبية والتقنية المتتالية كأدوات قوية، للفهم الجزيئي الدقيق للأمراض ومكافحتها. فأصبحت ممارسة الطب، بعد ذلك، تعتمد أساسا على علوم المختبرات والتقنية المتقدمة. ونتيجة للتقدم العلمي السريع، تشعب المجال الطبي إلى المزيد من التخصصات الطبية الرئيسية والفرعية. فمنذ منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، قفز عدد التخصصات الطبية الفرعية من 40 تخصص إلى أكثر من 120 تخصص معتمد ومرخّص من الجهات الطبية العالمية، ومن المتوقع أيضا أن تنشأ تخصصات طبية أخرى معتمدة على التقنية. وبهذا تتطلب هذه "التخصصات الدقيقة" خبرة كبيرة وتقنيات متخصصة وبرامج تعليمية متقدمة، وكوادر طبية مدربة تدريباً عالياً. 

وبناء عليه، ومع تزايد التخصصات الطبية المعتمدة المتنوعة، أصبح التنسيق بين التخصصات الفرعية أكثر صعوبة. و بهذا، أصبح تعقيد أنظمة الرعاية الصحية مرهقًا عند محاولة تسخير كل تخصص طبي فرعي فردي لصياغة تدخلات طبية شاملة تناسب المريض ككل. 

والسؤال الجوهري الذي يطرح نفسه الآن هو: هل مكافحة الأمراض التي تصيب الناس أو استعادة صحتهم وتعزيزها يحتاج هذا الكم الهائل من المتوالية المتوالدة غير المتناهية من التخصصات الطبية المختلفة؟ أم علينا أن نفكر في ايجاد نهج آخر بديل يمكن من خلاله تعزيز الصحة والعافية ومنع انتشار الأمراض. 

سؤال مطروح يحتاج إلى إجابة!!

💓 1
Comments (0)
Login or Join to comment.