·   ·  8 posts
  •  ·  2 friends
  • 2 followers
  •  ·  Advanced Member

ولازلت أبحث عن وطن..!

الوطن في ذهن الكثير منا هو المكان الذي يولد فيه الإنسان ويترعرع وتنشأ له معه ارتباط عاطفي وانتماء وجداني كما أنه المكان الذي يوجد به أقاربه وأصحابه وجيرانه. ولكن هل هذا المعنى جامع لمعاني الوطن؟ مثلا أنا ولدت وترعرعت وكبرت في بنغازي فهل وطني بنغازي أم ليبيا؟ ماهي علاقتي بالكفرة أو بسبها أو بالخمس أو بدرنة أو بطبرق. هذه كلها مدن لم أزورها في حياتي ولم أتشرف بالعيش فيها. ما الفرق بالنسبة لي بين مدينة الكفرة وتونس العاصمة أو بين طبرق والإسكندرية أو بين اجدابيا ومراكش؟ قد تقول أن هذه المدن تجتمع مع بنغازي في كيان سياسي أسمه ليبيا. ولكن هذا الكيانات السياسية المنفصلة التي وضعها المحتلون الصليبيون أعداء الإسلام منذ اقل من 100 سنة هل توجب علينا هذا الولاء العاطفي لخريطة فصل عنصري بين مجتمعات تجمعها كثير من روابط الدين والعرق واللغة؟ ما هي القدسية التي يحاولون زرعها فينا تجاه هذه الكيانات السياسية المستحدثة؟ أشعار وأغاني وكلام فارغ يدعو لتقديس ما يسموه بالوطن وهو في الحقيقة خريطة رسمها المستعمر وأقنعونا بأن الشرف والولاء لها أسمى من أي ولاء آخر. بل جعلوا لهذه الخرائط العنصرية قدسية أكثر من الإنسان التي شاءت له المشيئة الإلهية أن يولد على تلك الأرض. فالإنسان في هذه الكيانات السياسية مهمش لا قيمة له وتجده ينشد ويغني متبخترا "نموت ويعيش الوطن!!" ما هو هذا الوطن؟ القدسية في المجتمعات الواعية والمثقفة هي للإنسان لا للخرائط والكيانات السياسية. الوطن له مفهوم أكبر بكثير مما يحاولوا أن يقنعوننا به.. الوطن بالمعنى العميق ليس هو المكان الذي ولدت ولا هو المكان الذي ستدفن فيه ولا هو الذي تحمل جواز سفره (الكيان السياسي) بل الوطن في نظري هو المكان الذي تحيا (ولا أقول تعيش) فيه حياة كاملة. الوطن بمفهومه الشامل كما أراه ينبغي أن تتواجد فيه على الأقل خمسة مقومات أساسية وهي:

١- الأمن بمعناه الشامل وهو أنه يحق لك أن تعيش على تلك الارض من الناحية القانونية ثم أنك تأمن فيها على نفسك ومالك وعرضك وأهلك.

٢- الأمان بمعناه الشامل وكثير من الناس يخلط بين الأمن والأمان. الأمان هو أن هذا المكان يضمن لك ظروف معيشية مقبولة لك مهما تغيرت الظروف وهذا يشمل الطعام والماء ويشمل السكن المناسب ويشمل التعليم بجودة عالية ويشمل النظام الصحي. فأنت غير قلق ماذا سيحدث إذا مرضت أو مرض أحد أفراد أسرتك لأنك تعلم أنه في الدولة الذي تعيش فيها نظام صحي متكامل وجيد ومجاني أو غير مرهق ماديا لك. الأمان أن تعلم انه لو فقدت عملك أو مصدر رزقك فلن تفقد بيتك ولا الحد المقبول من المعيشة الكريمة لان المكان الذي تعيش في كنفه به نظام اجتماعي ممتاز يكفل للجميع حياة كريمة. الأمان أنك لا تقلق على تعليم أطفالك ولا تقلق على مستقبلهم لان المكان يضمن لهم كذلك السكن والحياة الكريمة عندما يصلون الى سن الرشد. وبالتالي الأمان نظم متكاملة تنعكس على شكل شعور داخلي في نفسك بالاطمئنان وعدم الخوف من المستقبل.

٢- حفظ الدين. هذا الدنيا هي دار ممر الى دار المستقر وهي معبر للآخرة وبالتالي بالرغم من أننا نجتهد أن نحياها كاملة ولكن ذلك ليس هو الغاية بل الغاية للمسلم (أو كما يجب أن تكون) هي مرضات الله سبحانه وتعالى. بالتالي حفظ الدين لك ولذريتك من بعدك هي من أهم أسس الوطن الذي ترتاح وتهنأ فيه. حفظ الدين لا يعني فقط حرية ممارسة الشعائر الدينية من صلاة وصيام وغيرها ولكن ينبغي أن تكون هناك نظم مؤسسية ترعى هذا الدين وتمنع التغول عليه كما يحصل في فرنسا مثلا بمنع الزي الإسلامي للفتيات في المدارس. كما أن المسلم من حقه أن يتحاكم الى شريعة الخالق وان تكون المرجعية الأخلاقية والقانونية لهذا الكيان كلها مبنية على الإسلام.

٤- العدالة بمفهومها الشامل وهي العدالة أمام القانون وكذلك العدالة الاجتماعية والاقتصادية. كل الناس متساوون أمام القانون وبالتالي تستطيع أن تقاضي حتى رئيس الدولة إذا شعرت بأنه قد ظلمك. وهذا يؤدي الى عدم الظلم وانه لاتزر وازرة وزر أخرى وإذا أخطأت فسوف تعاقب بقدر ما يحدد قانون العقوبات بالإضافة الى تكافؤ الفرص الاقتصادية والخدمية بين المواطنين بغض النظر عن أصولهم وعرقهم.

٥- الحرية وعدم القهر. لا يوجد وطن بمعنى وطن تكون مقهور وذليل فيه أو مكمم فيه فمك وممنوع فيه من الكلام والتعبير عن رأيك. حريتك مكفولة والقانون والقضاء يضمن عدم إساءة استخدام هذه الحرية بحيث تتحول الى كذب وتزوير وتشويه أو تعدي على حريات الآخرين. كما أن المنظومة السياسية تكفل إدارة الخلافات والايديولوجيات مهما كانت عميقة وبشكل سلمي.

 أي وطن هذا الذي تكون فيه خائفا حتى وأنت بريء؟ أي وطن هذا الذي لا يوفر لك دواء ينقذ حياة طفلك؟ أي وطن هذا الذي أنت مقهور فيه وتخاف أن تنطق بكلمة حق (من وجهة نظرك على الأقل)؟ أي وطن هذا الذي يستطيع شخص حسود وبتقرير كيدي أن يرمي بك في غياهب السجون والتعذيب أو ربما حتى يدخلك القبر؟ أي وطن هذا الذي تضيع فيه الموارد المادية فلا تكاد تجد فيه منظومة صحية محترمة ولا منظومة تعليمية ولا منظومة اجتماعية ولا طرق سير آمنة ولا منظومة كهرباء موثوقة ولا طرق حديدية تسهل انتقال المواطن ولا مطارات حديثة؟

الوطن تحول عند بعض المغيبين الى صنم يكاد أن يعبد من دون الله لمجرد أنه ولد فيه هو وأجداده ولو لم تتحقق له فيه ابسط الاحتياجات البشرية ثم أقنعوه بأن حياته لا تهم ولا تساوي شيئا في سبيل هذا الصنم الوهمي. أنا لا يهمني هذا الكيان السياسي ولا يهمني من يحكم هذا الكيان وأصوله ومن أين أتى إذا تحققت لي عناصر الوطن الخمسة حتى يستحق تسميته وطنا. يقول الله تعالى في كتابه "إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا" ويقول تعالى في آية أخرى "يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ"... أرض الله واسعة وحصرها فقط في مكان الولادة اذا كانت مكان ظلم وخوف وقمع وفقر وقهر فهذا لا شك من غياب الحكمة وضيق الأفق.

زعيم أو رئيس وهو أبا عن جد من أصول هذا الكيان السياسي المسمى الدولة الفلانية يحكم البلاد والعباد بحكم مطلق عدة عقود (بعضهم أكثر من 40 سنة) كاملة ولم ينجح في تكوين وطن بالمعنى الشامل. ألم تكن مرحلته عند البعض أسوأ من احتلال أجنبي بغيض؟ ما الذي حققه بثروات البلاد المادية الهائلة؟ كيف أستثمر الموارد البشرية حيث أغلبية المواطنين من الشباب؟ ألم يفشل على أغلب المستويات؟ غالبية حكام منطقتنا العربية نجح في تحقيق وبشكل جزئي العنصرين الأول والثالث ولكن أين بقية مقومات الوطن. ما الذي استفاده ذاك المواطن المسحوق والذليل في بلده من كون الحاكم ابن البلد أبا عن جد؟ ما الذي سيتغير لو حكم هذا الكيان السياسي بدل ذلك الحاكم شخص آخر ولو لم تكن أصوله من هذا الكيان إذا استطاع أن يحقق لنا وطنا بمقوماته الخمسة؟ أما شعارات وخرافات الوطنية فمكانها فقط الأشعار والأغاني الحماسية الراقصة والمخدرة ربما يسمعها ذلك المسكين الذي يفتش في القمامة يبحث عن لقمة يأكلها أو ذلك الذي يبحث عن واسطة يستخرج بها موافقة أمنية حتى يستطيع أن يمارس حقة في أن يسافر ويخرج من هذا السجن أو هذا الصنم الذي يسمونه الوطن. او ربما تلك الأم التي تزور ذلك السجن تمني نفسها في رؤية ابنها لمدة عشر سنوات لأنه ربما قال كلمة أغضبت الطغمة الحاكمة وهي لا تعلم أن رفات ابنها قد رمي به للبحر منذ سنوات طويلة ظلما وعدوانا. ولا يزال منظر ذلك العجوز الذي يستجدي المصلين في المسجد بعد صلاة العصر ان يساعدوه ليحمل ابنه للعلاج في تونس فإذا بإمام المسجد ينهره بنبرة حادة عن السؤال في بيت الله فيخرج مكسور الخاطر باكيا كالأطفال بعد أن أوصدت في وجهه الأبواب في دولة من أغنى دول العالم ولكن نظامها السياسي الركيك فشل في تكوين وطن له ولغيره. هل هذه تستحق أن تسمى أوطانا؟ بعض البسطاء يتشدق بأن الوطن وفر لك لقمة العيش والتعليم ولا يعلم هذا البائس أن أغلب دول العالم فقيرها وغنيها توفر لقمة العيش والتعليم مجانا لكل من يعيش على أرضها. الله سبحانه وتعالى يرزق حتى النملة في الصحراء فهل يعجزه رزقك؟ لا يمكن ربط الوطن فقط بالطعام والشراب والتعليم الأساسي، بل هو أعظم من ذلك بكثير. جزء كبير من ادعاءات السيادة الوطنية هو لذر الغبار في العيون تستخدمها الطغم الحاكمة للتوغل في حقوق الناس. ولهذا يجب على المشنوق ظلما بسبب رأيا سياسيا أن يشعر بالعزة والفرح لأن الذي شنقه هو أبن بلده ولم يشنقه المستعمر ولهذا فهو يموت بكرامة! أي حماقة تلك! الشعوب الواعية المثقفة في أوروبا تفطنت لهذه الحقيقة فتجد كل الدول الأوروبية قد تنازلت عن جزء من سيادتها الوطنية وألغت الحدود فيما بينها بالرغم من اختلاف اللغات وحتى بعض الأصول العرقية والاثنية بينها وذلك لصالح الاتحاد الأوروبي لتعزيز معاني المواطنة وتحقيق الرفاهية والكرامة الحقيقة لشعوبها وليست مجرد شعارات جوفاء. هل تعلم أن الدول الأوروبية لا تستطيع أن تحدد حتى بعض سياساتها الاقتصادية الداخلية لان الاتحاد الأوروبي هو من يضع إطار هذه السياسات. وأخيرا اشعر بالأسف لمن يعتقد من المغتربين أن دول أوروبا أو أمريكيا أو كندا أو أستراليا هي وطنا بالمعنى الشامل. هذه الدول بالرغم من أنها تتحقق فيها اغلب مقومات الأوطان ولكن بالنسبة لنا نحن المسلمين لا يتحقق فيه العنصر الثالث. نعم هذه الدول ووفقا للدستور تضمن لك حرية العبادة ولكن هذا لا يكفي وليس ضامنا لأطفالك وذريتك من بعدك. هذه الدول كما تضمن حرية العبادة فهي تضمن كذلك حرية الكفر وحرية الزندقة وحرية الشذوذ وحرية الفسق وربما يتم توجيه الأطفال والمراهقين لحب الشذوذ ببرامج تعليمية خبيثة وقد بدأت فعلا. هذا غير البرامج التشكيكية الخبيثة في وجود الخالق سبحانه وتعالى وبث الشبهات ودفع الشباب للاستمتاع بالدنيا فقط وبكل الطرق الممكنة. ولهذا أنا شخصيا لا اعتبر هذه الدول أوطانا لنا ولهذا كاتب هذه الكلمات لايزال مشتتا تائها يبحث عن وطن!

💓 1
  • More
Comments (2)
    •  سبحان الله تتلاقى الاحسيس ، وتتقارب التعابير ، وتنصهر في بوتقة الوطن ،ويبقي المخلصون للوطن هم خارج الوطن ،ويعبث المجرمون واللصوص بالوطن الى حين ولكن لن نستسلم

      • 2
      • الوطن مفهوم معاصر وبكل صراحة كثير ممن توجه لهم سؤال ما هو الوطن تكون الإجابة هي حدود سايكس بيكو. لا يستطيع أن يجيب عندما تتعمق معه في المعني. السبب ان هناك تناقض في مفهوم الوطن بمنظور الغربي وقواعد ديننا الحنيف. لان في عقائدنا ان الولاء للله و العمل للله فقط . في رأيي أن الوطنية والقومية مفاهيم مستوردة يجب إعادة التفكير بها.

        • 2
        Login or Join to comment.