Feed Item

كلما حدثت كارثة مثل الزلازل أو البراكين أو العواصف العاتيات أو الفيضانات ولعل أخرها هذا الفيروس وانتشاره المخيف كلما سارع بعض الأخوة والشيوخ بالتصريح بأنها عقوبة إلهية وبالمقابل يسارع بعض المخالفين بأنها أحداث كونية طبيعية ولبعضها عوامل فيزيائية معروفة حدثت في الماضي وفي الحاضر وستحدث في المستقبل للبشر جميعا وليست مرتبطة بإيمانيهم ولا فجورهم ولا ظلمهم. من وجهة نظري أن في كلا الرأيين صواب وخطأ كما سوف أبينه. 

فلنبدأ بالاتفاق على ثلاثة أمور أولية. أولا كل مسلم صحيح العقيدة يؤمن بأن الله تعالى هو خالق هذا الكون ولم يخلقه عبثا وهو سبحانه لم يترك هذا الكون بعد خلقه بدون رقيب بل هو سبحانه وتعالى رقيب عليه ومدبر لكل شيء فيه كما قال تعالى "يدبر الأمر من السماء إلى الأرض" ولا يحدث في هذا الكون شي إلا بعلمه سبحانه وإذنه من دوران النجوم والمجرات الى دوران الالكترونات في افلاكها ... ثانيا أن الله سبحانه وتعالى وضع سنن في هذا الكون وهذه السنن ثابتة لا تتبدل ولا تتغير كما قال تعالى "فلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا" ومن هذه السنن العلاقات والتداخلات بين المواد والعناصر والقوى في هذا الكون وذلك بما نعرفه بالعلوم الطبيعية (مثل الفيزياء والكيمياء والاحياء والجيولوجيا) بالإضافة إلى النمذجة بالحساب والقوانيين الرياضية (الرياضيات في ذاتها تصنف تحت العلوم المجردة) والتي تصف هذه السنن وتشرحها بدقة عالية مع وجود نسب معتبرة من القصور المعرفي عند البشر و التي نعرفها بمعامل عدم اليقين والخطأ في كل النماذج. والنمذجة هي المقاربة العقلية الوحيدة لفهم هذا الكون وهذه السنن بدرجات متفاوتة.  ثالثا إن كل الأحداث صغيرها وكبيرها في هذا الكون تحدث نتيجة عملية العلاقات الفيزيائية الطبيعية مع الزمن ومدبر الكون سبحانه وتعالى يقدر حدوث الحدث الطبيعي تزامنا مع حدث أو أحداث أخرى ليقضي الله أمرا كان مفعولا. 

ونسوق هذا المثال البسيط لتوضيح هذا الأمر.. نتخيل أن هناك عمود كهرباء خشبي قديم معزول عنه خطوط الكهرباء وهو قائم وحده في إحدى الشوارع في قرية ما .. هذا العمود تآكل أسفله بسبب الأمطار وعامل الزمن وصار هشا ضعيفا وكل ذلك يمكن وصفه بالمعادلات الرياضية. وفي يوم عاصف خرج رجل من بيته يريد السوق لشراء الخبز. اشتدت الريح وكانت البقية الباقية من قاعدة العمود تتكسر بسبب قوة الرياح والتي يمكن وصفها كذلك بمعادلة رياضية وكان يمكن التنبؤ بدقة متى سيسقط العمود لو توفرت كل المعلومات بدقة... ولكن لحظة سقوط العمود تتزامن تماما مع مرور الرجل من تحته فيسقط العمود على رأسه ويموت. لو تأخر الرجل أو استعجل ثواني قليلة لربما فلت من سقوط العمود وتهشيم رأسه. بالنسبة لغير المسلمين مثل هذه الأحداث هي مجرد صدف! بينما كل مسلم يؤمن بأنها أقدار وليست صدف وأن الله سبحانه وتعالى هو من أراد لهذه العملية التراكمية في الأحداث والتي قد تبدوا للبشر مستقلة عن بعضها أن تسير وفقا لمسار محدد. وبالتالي وبالرغم من أن الزلازل والبراكين والفيضانات وانتشار الأوبئة هي نتاج لعمليات وأحداث طبيعية إلا أنها تسير وفقا لتدبير مدبر الكون وهو سبحانه من أذن لها أن تحدث لهؤلاء القوم دون هؤلاء وفي هذا الزمان والمكان دون ذاك. إذن فهي ليست عشوائية بل بتدبير الحكيم العليم. السؤال هل هي عقوبة؟ ولماذا لهؤلاء دون أولئك؟ وللإجابة يجب أن نقر بأن المصائب قد تكون عقوبة عجلت في الدنيا لبعض المجرمين ولكن الأصل في كل أمر يحدث سواء أكان شرا (مصيبة أو كارثة) أو خيرا (نعمة وفضل) أنه ابتلاء في هذه الدنيا كما قال تعالى "ونبلوكم وبالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون" ومعنى الابتلاء هو الاختبار والامتحان. وبالتالي فإن الكوارث والمصائب قد يكون فيه خير حيث يصبر المصاب والمبتلى ابتغاء مرضات الله فيفوز برضى الله وقد يكون خيرا للبعض حيث يرجعون بسبب هذه الكوارث إلى الله بالتوبة والإنابة. 

وقد تكون هذه الكوارث غضب من الله سبحانه وتعالى وعقوبة معجلة في الدنيا وليست من الابتلاء والاختبار. نجد في القرآن الكريم قصص كثيرة لأقوام دمرهم الله بالزلازل أو خسف بهم الأرض أو أغرقهم في فيضانات وغيرها. سؤال.. هل القوم الذين عاقبهم الله كما بين لنا في القرآن الكريم بسبب كفرهم ومعاصي معينة هل كانوا هم الوحيدون الكفار وهل كانوا أصحاب اشد المعاصي على الأرض في ذلك الوقت؟ نحن لا نعلم تفصيليا، ولكن ليس لدينا دليل بأنهم كانوا الأسوأ على الارض في ذلك الوقت. الله سبحانه وتعالى دمر قوم لوط وجعل عاليها سافلها واليوم لدينا دول لا تبيح فقط أفعال قوم لوط بل وتقننها وتعطيهم حقوق كثيرة بل ويتفاخرون بهذا. فلماذا لم يدمرهم الله كما دمر قوم لوط؟ حسنا فلنسأل سؤال آخر: أين سيدنا لوط وأين الصالحون في ذلك الزمن وأين بقية الكفار والفسقة والظلمة الذين عاشوا في نفس فترة قوم لوط... كلهم ماتوا وكلهم انتهوا من هذه الدنيا .. صالحهم وكافرهم، طيبهم ومجرمهم, الكل انتهى... إذا الأصل في الجزاء عن الأعمال هو الآخرة وليس الدنيا وتعجيل العقوبة في الدنيا المراد منه بالإضافة للانتقام من المجرم، هم الآخرون مثلي ومثلك لعلهم يتعظون أو يتذكرون. الكون وما فيه خلق الله وهو سبحانه وحده من يحدد من يريد أن يعجل له العقوبة في الدنيا ومن يريد أن يؤخره إلى يوم الفزع الأكبر ومن يريد أن يبتليه ومن يريد أن يجعله آية ومن يريد أن يرحمه. 

هذه أمور لا علم لنا بها ولا ينبغي أن يقول أحدنا أن هذه عقوبة من الله فهو لا يعلم مراد الله ولكن الأصل أنه ابتلاء والذي يكون للصالح والطالح. وباختصار فمن يفك ارتباط الأحداث والمصائب والكوارث عن أفعال الناس او الابتلاء والاختبار ويعتبرها مجرد أحداث طبيعية فيزيائية فهو على خطأ وكأن الله سبحانه قد خلق الكون وتركه وهذا قد يكون فيه خلل حتى في العقيدة، ومن يضع نفسه في موقع العلم بمراد الله تعالى فيقول هذه عقوبة وهذه رحمة، بل منهم من يقول أن الله قد امر بإغلاق المساجد بسبب الفيروس لأنه لا يريد أن يرى المسلمين وانه غاضب منهم فطردهم من بيوته ومن مكة والمسجد النبوي بسبب افعالهم؟ فنقول اذا كان هذا القول هو محاولة تفسير مبني على الاجتهاد والتأمل فربما نقبله او نرفضه ونرده ولكن إن تقدمه لنا بصيغة التأكيد فنقول له: من أخبرك بمراد الله؟ ... يجب الحذر فهذا والله أعلم قد يكون من باب الكذب على الله، فلا يعلم مراد الله إلا هو سبحانه وتعالى. ولا نعلم من الغيب إلا ما أخبرنا به سبحانه في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم. نسأل الله أن يجعلنا من الصالحين وأن يلهمنا الصبر والرضى بما أراده لنا.