جيل في خطر: إعادة التفكير في صحة الأطفال في الولايات المتحدة ،،، على هامش تقرير "فلنجعل أطفالنا أصحاء من جديد"

استجابة للقرار التنفيذي الرئاسي الذي أصدره دونالد ترمب تحت رقم 14212 الصادر بتاريخ 13 فبراير 2025، شُكلت لجنة علمية من 14 عالم في تخصصات متعددة للوقوف على الأزمة غير المسبوقة لصحة الأطفال الأمريكيين، حيث شهدت العقود الأخيرة ارتفاعا حادا ومقلقا في حالات الأمراض المزمنة بين الأطفال والشباب في الولايات المتحدة. فقدمت اللجنة تقريرا أوليا للحالة الراهنة تحت عنوان (فلنجعل أطفالنا أصحاء من جديد) (MAHA Report). فطرح التقرير تحليلا جادا ومميزا لهذا الوضع الصحي الطارئ على المستوى الوطني الأمريكي. فقد اعتمد التقرير على أحدث البيانات الوبائية والتحليلات المنهجية ليكشف عن عبء صحي متعدد الجوانب يؤثر على الأطفال في جميع أنحاء أمريكا. ويحدد أربعة عوامل متداخلة كمسببات رئيسية لهذه الأزمة على رأسها النظام الغذائي، والتعرض للمواد الكيميائية، ونمط الحياة غير الصحي، والممارسات الطبية غير المسؤولة، بوصفها المحركات الرئيسية لأزمة الأمراض المزمنة القابلة للوقاية. وقد أشار التقرير إلى وجود أكثر من 40% من الأطفال الأمريكيين يعانون من مرض مزمن واحد على الأقل، وتشمل هذه الحالات السمنة، والسكري، واضطرابات النمو العصبي مثل التوحد وفرط الحركة وتشتت الانتباه (ADHD)، والاضطرابات النفسية، وأمراض المناعة الذاتية، والحساسية. بالإضافة إلى ذلك، فإن أكثر من 75% من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 17 و24 عاما غير مؤهلين وغير لائقين للخدمة العسكرية بسبب مشاكل صحية جسدية أو عقلية. مما تزداد الحاجة الملحة معه لاتخاذ إجراءات حاسمة وفاعلة. ولمعرفة المزيد عن الأنواع المختلفة للأمراض المزمنة التي يعاني منها الأطفال الأمريكيين في العقود الأخيرة يمكن للرجوع للتقرير المفصل وبمهنية عالية (انظر ادناه).

وقد حدد التقرير أربعة عوامل رئيسية وراء هذا التدهور الصحي باعتبارها المحركات الأساسية للأزمة الصحية الراهنة، لخصها في التالي: 1- الأغذية فائقة المعالجة: وتشكل حوالي 70% من السعرات الحرارية التي يستهلكها الأطفال الأمريكيون. وهي مليئة بالسكريات والدهون المكررة والمضافات الصناعية، التي ترتبط ارتباطا وثيقا بالسمنة، والسكري، وأمراض الكبد، والقلب. 2- التعرض للمواد الكيميائية البيئية: حيث أشار التقرير إلى وجود أكثر من 40,000 مادة كيميائية صناعية مستخدمة في الولايات المتحدة، كثير منها غير منظم أو لم يخضع لاختبارات كافية بحيث يتعرض الأطفال بشكل مستمر لمواد ضارة متنوعة ذكرها التقرير بأسمائها. 3- قلة النشاط البدني والتوتر النفسي: حيث يستهلك المراهقون أكثر من 9 ساعات يوميا أمام الشاشات، و85% لا يلتزمون بتوصيات النشاط البدني والرياضات المتنوعة. كما تؤدي قلة النوم والاستخدام المفرط لوسائل التواصل الاجتماعي إلى تفاقم مشاكل الصحة النفسية. كما أشار التقرير إلى نقطة رابعة غاية في الأهمية وهي 4- الإفراط في استخدام الأدوية: فقد زادت وصفات أدوية ADHD بنسبة 250%، ومضادات الاكتئاب بنسبة 1,400%، ومضادات الذهان بنسبة 800%. وقد أشار التقرير إلى أن كثير منها يُستخدم خارج التوصيات والوصفات الطبية المسؤولة، ودون بيانات أمان طويلة الأمد. كما أن أكثر من ثلث وصفات المضادات الحيوية للأطفال غير ضرورية ولا يجب وصفها ابتداء. وعلى مستوى الصحة النفسية والعقلية، أشار التقرير إلى ان 3 مليون من طلبة الثانوية العامة فكروا في الانتحار جديا عام 2023، كما يعتبر الانتحار ثاني أكبر مسبب للوفيات للشباب الأمريكي التي تتراوح أعمارهم بين 10-24 سنة خلال الأعوام 2007-2021، وأن 73% من الشباب الأمريكي يشعر بالوحدة عام 2024، وأن 15% منهم ليس لديهم أصدقاء مقربون بزيادة 5 اضعاف ما كانت عليه الحالة 1990عام. وقد كشف التقرير عن نقطة مهمة وهي أن هذه الاتجاهات المقلقة ليست نتيجة خيارات فردية فحسب، بل تعود إلى إخفاقات هيكلية عميقة في مؤسسات أنظمة الرعاية الصحية الأمريكية. ومن أبرزها التأثير الكبير للشركات على البحوث العلمية والسياسات العامة والتنظيمات الفيدرالية. إذ أن 95% من مستشاري الإرشادات الغذائية الفيدرالية لهم علاقات مالية موثقة مع قطاع الصناعة. وهناك حركة تبادلية واضحة بين الجهات التنظيمية ومصالح شركات الأغذية والأدوية والكيماويات، مما يقوض مصداقية السياسات الصحية العامة، والتي وصفها التقرير بسياسة "الباب الدوار".

بهذا الوصف الدقيق للحالة المزمنة الراهنة يدعو التقرير إلى اتخاذ إجراءات جذرية تشمل: إصلاح نظام الغذاء الأمريكي للتركيز على الأغذية الكاملة، وتنظيم التعرض للمواد الكيميائية، وتعزيز النشاط البدني والصحة النفسية، ومراجعة ممارسات وصف الأدوية للأطفال، وإنشاء مؤسسات صحية عامة مستقلة وشفافة.

على الرغم من الوصف الدقيق للأزمة الراهنة من الأمراض المزمنة التي تعصف بالجيل الحالي والأجيال القادمة، لكن من وجهة نظرنا أن التقرير أغفل عوامل أو محركات رئيسة أخرى لها وزنها الاعتباري في تعزيز صحة الأطفال والشباب الأمريكي يمكن التفصيل فيها لكن المقام لا يسع لذلك، ولذا ارتأينا حصرها في العوامل التالية: لم يتطرق التقرير في شق الغذاء إلى مدى تأثير الأغذية المعدلة جينيا ومدى تأثيرها على صحة الأفراد والمجتمعات، حيث تعج اجنحة الفواكه والخضروات بالأسواق الأمريكية بالمنتجات المعدلة جينيا، وهذا لابد من الإشارة إليها في خطة العمل القادمة. كما نحب أن نسأل هنا عن مدى تأثر القيمة الغذائية للفواكه والخضروات من حيث تواجدها واستهلاكها في غير مواسمها الزراعية الطبيعية، فانتشار الزراعة غير العضوية وتوافرها على مدار العام 365 يوم (توافرها في الفصول الأربعة) من خلال تصديرها واستيرادها بين بيئات ومناخات مختلفة غير متناغمة، وعبورها الحدود الدولية بين بلدان الشمال والجنوب والشرق والغرب، فبالتأكيد له تأثير في القيمة الغذائية للفواكه والخضراوات المستهلكة.

كما لم يشر التقرير إلى الجوانب والسياقات الاجتماعية في حياة الأطفال والشباب الأمريكي حيث تشير دراسات عديدة على ان السياق الاجتماعي يحدد ما نسبته 23% من صحة الأفراد. فالعلاقات الاجتماعية ابتداء بمجتمع الأسرة الصغير مرورا بالجيران والمجتمع المدرسي والحي الأوسع لها تأثيراتها الوازنة في تعزيز صحة الأفراد والحفاظ عليها. كما لم يتطرق التقرير إلى الكيان الروحي في الإنسان طفلا كان أو شابا، فالعافية الروحية والعاطفية لا تأتى إلا من خلال اللجوء إلى الدين وتعاليم الكتب المقدسة وتوصياتها في تعزيز الصحة، حيث يعج عالمنا اليوم ومنغمس في السياق المادي الجارح.

ونحن متأكدون أن التقرير الحالي سيلحقه تقرير خطة عمل استراتيجية (خارطة طريق) للوقوف حول المحركات الرئيسة والعمل على عكسها تماما للتقليل من حدة الأزمة الصحية الراهنة، ولذا فالخطة الاستراتيجية ستكون بوصلتها موجهة للأطفال المصابين لمنع تفاقم الأزمة الصحية لديهم، لكن أيضا لا ننسى أن نعمل على تعزيز العافية لدى الأطفال والشباب الأصحاء الخالين من الأمراض والعمل في خطط متكاملة للحفاظ على صحتهم وديمومتها. ونحن نرى أن أدوات ودواليب تعزيز العافية والحفاظ عليها تختلف تماما عن دواليب وأدوات مكافحة الأمراض وعلاجها. فأنظمة الرعاية الصحية ومناهج التعليم الطبي بنيت حسب تقرير ابراهام فلكسنر الصادر عام 1910على المرض وأهملت الصحة والعافية. حيث ساهم تقرير فلسكنر التاريخي في ترسيخ الطب كمهنة بحثية مرموقة، إلا أنه قوبل بانتقادات لتشجيعه الإفراط في التداوي وتهميش الصحة العامة والوقاية، واعتماده نموذجا اختزاليا يركز على المرض.

نختم ونقول بأن خطة العمل الاستراتيجية المتوقعة تتطلب تغييرات جذرية في السياسات والهياكل على ان تشارك في رسمها جميع القطاعات مع عدم اهمال الجانب الروحي من خلال تعزيز الممارسات الدينية لتعزيز العافية النفسية والروحية، بالإضافة للسياقات الاجتماعية وتأثير العلاقات الاجتماعية في تعزيز الصحة بالإضافة مراجعة المنتجات المعدلة جينيا وتخفيضها في الأسواق والدعوة والعمل على الرجوع إلى استهلاك المنتجات الزراعية العضوية من فواكه و خضراوات، وأخيرا لابد من الخطة الاستراتيجية ان تضع آليات عمل واضحة في تعزيز صحة الأفراد المتعافين والعمل على تعزيز العمر الصحي Health span بدلا من اطالة العمر التقليدي الكرونولوجي Lifespan.

وللاطلاع على التقرير كاملا، انقر الرابط أدناه:

https://www.whitehouse.gov/wp-content/uploads/2025/05/MAHA-Report-The-White-House.pdf

الردود (1)
    • شكرًا عبدالباسط على المشاركة. لدي بعض الملاحظات حول التقرير الأصلي، وليست حول ماتفضلت به في ردك عليه:

      أولاً، اللجنة المذكورة في الصفحة الرابعة من التقرير ليست من علماء متخصصين بل جلها من المناصب السياسية في إدراة ترمب. وحتى الأطباء منهم فهم على رأس مؤسسات وليسوا بالضرورة من الباحثين.

      ثانيًا، رئيس اللجنة روبرت كندي، معروف بتحيزه ضد الطب التقليدي، ومن خلال قراءتي للتقرير ينعكس ذلك جليًا، وهو مشهور بسرديته التي تقول أن التطعيمات تسبب التوحد، والتي لم تثبتها أي أبحاث طبية وكن من المنادين بمقاطعة اللقاحات بصفة عامة، ومنها لقاح كورونا. وترى تكرار "التوحد" في التقرير عدة مرات، مايعكس إنحياز التقرير لرؤية رئيسه.

      ثالثًا، التقرير لم يأت بجديد في الأوساط الأمريكية التي أسمعها يوميا، بل أعاد صياغتها في عنوان جديد (ماها) على وزن (ماقا) للتناسب مع السردية الترمبية والتي تروق لمناصريه.

      بالطبع هناك جوانب صحيحة في ماذكر،. ولكنها أمور معروفة وهناك أبحاث تتناولها وتخوض فيها بشكل علمي وبدون بهرجة سياسية وإعلامية، وهذا ماسيهم في نهاية الأمر.

      والله أعلم.