·   ·  30 posts
  •  ·  7 friends
  • ا

    8 followers
  •  ·  Moderator

''حركة ''الهدوء الكبير The Big Quiet Movement

تحدثنا في مقالة سابقة بعنوان "الركائز الحالية لتعزيز العافية" من منظور غربي، وخلصنا إلى ان تعزيز العافية لدى المدرسة الغربية يرتكز بالضرورة على اربع قواعد أو أركان أساسية هي: الأكل الصحي، ممارسة الرياضة، الخلود إلى النوم الكافي، وأخير ادارة الإجهاد والضغوط اليومية. وقد اشرنا إلى أن اغلب هذه المرتكزات أو الأركان هي مرتكزات مادية بالضرورة، باستثناء جزء من الركن الرابع وهو ادارة الاجهاد والضغوطات. فإدارة الإجهاد والضغوط اليومية يتم التعاطي معها غالبا باللجوء إلى استخدام أنواع مختلفة من الأدوية المسكّنة، والمنوّمة، والمخدّرة، ومعاقرة المشروبات الكحولية وغيرها من الأساليب والاشكال المادية للتقليل من الضغوطات النفسية اليومية للأفراد. وأشرنا في المقالة أيضا، إلى أنه بالإضافة إلى تعاطي هذه العقاقير والأدوية – وأحيانا الادمان عليها - يتم أيضا اللجوء إلى استدعاء الجانب النفسي والروحي والعقلي للإنسان، والاهتمام بها من خلال أدوات وممارسات متعددة جوهرها التأمل (meditation)، والتأقلم (coping)، والتركيز الذهني (Mindfulness). وكما معروف لدينا ان المدرسة الغربية (الاورو- امريكية) تطغى عليها الفلسفة المادية الجارحة. فالنموذج (المرشاد) الفلسفي والمنطلق العلمي عندهم لتصوّر الكون والخلق والخليقة (الدنيا والآخرة) هو نموذج ثنائي مادي صرف (الإنسان، الكون)، بينما النموذج (المرشاد) الاسلامي فهو مبني على ثلاثية (الله، الانسان، الكون). وبناء عليه، ونتيجة لمساوئ المدرسة المادية الرأسمالية، وما جلبته من أضرار وشروخ نفسية وروحية وافلاس اخلاقي واجتماعي، تم البحث عن أدوات وآليات من خارج نطاق نموذج تفكيرهم المادي إلى نطاقات اخرى قد تشبع فيهم الجوانب الروحية والنفسية، فتم اللجوء إلى استدعاء واستحضار النموذج الشرقي، بمعنى الاستعانة بالمدرسة الشرقية (الهندو- صينية) لترميم التهتك النفسي والروحي لديهم، وفي مقدمتها التعاليم البوذية (الهندية) والكونفشيوسية (الصينية) الضاربة في القدم تاريخيا. وتمتاز البوذية بتركيزها على الفلسفة والتأمل والسلام الداخلي، وهي ديانة عالمية لها اتباع كثر وخصوصا في مناطق آسيا. والبوذية خليط من التقاليد والمذاهب، وهي تقدم مجموعة من التعاليم والممارسات التي تهدف إلى تحقيق هذه الأهداف. أما الحكمة الصينية (Chinese wisdom) فهي مصطلح يشير إلى مجموعة من الفلسفات والتقاليد الفكرية التي نشأت وازدهرت في الصين على مر العصور. وتتميز الحكمة الصينية بتنوعها وعمقها، حيث تتضمن مذاهب فلسفية متنوعة أهمها الكونفوشيوسية، ذات التعاليم التي وضعها الفيلسوف الصيني كونفوتسيوس، وتركز الكونفوشيوسية على مبادئ الأخلاق والتربية والتقاليد الاجتماعية، وتنادي بتحقيق الفرد للتحسن الشخصي، والانضمام إلى التقاليد الاجتماعية، وتحقيق التوازن بين الأخلاق والمسؤوليات.

وعلى الرغم من التقدم المادي الملحوظ للمدرسة الغربية المتمظهر في الثورات الثلاث (الزراعية – الصناعية – الرقمية، وهي موضوع مقال سابق تم نشره في "منصة تجربتي" تحت عنوان: "الثورات الثلاث ما لها وما عليها")، والتي تجلّت في الاكتشافات والابتكارات والتقدم الحضاري المادي غير المسبوق في القرون الثلاثة الأخيرة، وبروز مصطلح "التباعد الكبير"، ويعني الهوة الواسعة التي تباينت في مستوى معيشة الناس ورفاههم بين سكان أوروبا الغربية وسكان الشرق. فعلى الرغم من هذا الثراء المادي الفاحش، إلا ان المدرسة الغربية افتقرت إلى الجوانب الانسانية والاجتماعية والنفسية والروحية، مما نتج عنه اختلالات ومشاكل وبروز أمراض معقدة على مستوى الأفراد والمجتمعات لم تكن معروفة قبل قرنين من الزمان، عجزت انظمة الرعابة الصحية الحديثة في التعاطي معها ومكافحتها والقضاء عليها. ومن هنا، فاستدعاء المدرسة الشرقية للتغلغل في السياق الاجتماعي الغربي كان ضرورة حتمية لخلق هذا التوازن المفقود. ومن مظاهر تسلل واندياح المدرسة الشرقية في السياق الغربي الاجتماعي بروز وانتشار ظاهرة ممارسة طقوس ما يعرف بـ "يوغا - Yoga" في المجتمعات الغربية. واليوغا تتكون من مجموعة متنوعة من الأساليب والتقنيات كنظام شامل للتنمية الروحية والجسدية، وتتضمن تمارين التأمل والتنفس التي تهدف إلى تحقيق التوازن والانسجام بين الجسد والروح والعقل. غايتها تعزيز الصحة العامة، وتحسين المرونة والقوة الجسدية، وتهدئة العقل والتخلص من التوتر، وتعزيز الوعي الروحي. واليوغا أنواع ليس هنا محل نقاشها.

والجدير بالذكر هنا، أن ممارسة رياضة اليوغا للتوازن النفسي والروحي والعقلي كانت ولا زالت تمارس على نطاق فردي أو جماعي في صورة مجموعات صغيرة ضيقة ذات اعداد محدودة، إلى أن جاء شخص يدعى جيسي اسرائيل (Jesse Israel)، وهو رائد أعمال اجتماعي (social entrepreneur)، وقائد في مجال التأمل، ومدير تنفيذي لشركة تسجيلات موسيقية معروفة، وغيّر من مفهوم وطبيعة ونمط ممارسة التأمل الفردي، وأجرى تعديلات جوهرية ذات قيمة مضافة لتعزيز السلام الداخلي. بدأت رحلة جيسي إسرائيل الشخصية في عالم اليقظة وبناء المجتمعات على خلفية المشهد الحضري الصاخب الضاغط، حيث وتيرة الحياة الحديثة المتواصلة التي غالبًا ما تجعله يشعر بالانعزال والإرهاق. وسط هذه الفوضى، اكتشف جيسي القوة الشافية للتأمل - كممارسة قديمة في المدرسة الشرقية - لتقدم مسارًا نحو السلام الداخلي والوضوح والهدوء وسط الضجيج. فدفعته رغبته الشديدة وطموحه الكبير في مشاركة عدد كبير من الناس واعادة تصور وهيكلة التجارب الجماعية للتأمل، وهي مستوحاة من استجلاب الطاقة الجماعية للتجمعات كبيرة الحجم، وسكون الطبيعة المحيطة بهم، حيث يمكن للأفراد أن يجتمعوا لاستكشاف أعماق وعيهم الخاصة في بيئة داعمة وشاملة. فقام جيسي بتأسيس حركة اجتماعية ضخمة سميت بحركة "الهدوء الكبير -  The Big Quiet "، وهي حركة تأمل جماعية للناس المعاصرين، بدأت مع منتصف العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، وتكونت في بداية انطلاقها من 25 شخص تقريبا، ثم تطورت لتضم الالاف من البشر يجتمعون دوريا في أنحاء متفرقة من مدن العالم مثل حديقة نيويورك، أو لوس انجلوس في كاليفورنيا، وغيرها من الأماكن والحدائق العامة أو المسارح والقاعات الكبيرة. يجتمع المشاركون في هذه الفعالية ويطلب منهم اغلاق عيونهم، وهواتفهم النقالة، وكذلك خلع احذيتهم واحزمة ملابسهم، ويجلسون على الأرض في حلق دائرية أو هلالية. فقد تم تصميم فعاليات "الهدوء الكبير" بعناية فائقة لزرع جو من السكينة والتواصل والترابط الجمعي (social connectedness)، حيث يتم تضمين عناصر من التأمل الموجّه، والموسيقى الحيّة، والتمارين التفاعلية، فيتم الاستماع في هدوء إلى أنواع من الموسيقى الهادئة التي تعمل على تقوية تركيزهم الذهني وصفائهم النفسي، وتمنحهم السعادة المفقودة لديهم، فيُدعى الحضور ويطلب منهم الاستسلام للحظة الراهنة، والتخلي عن الضغوطات والتشتتات الناجمة عن الحياة اليومية، والانغماس في نسيج النظرة الداخلية الغنية.

وقد صرح جيسي في مقابلات تلفزيونية وفي عدد من وسائل التواصل الاجتماعي بأنه قام بتوقيع عقود مع فرق موسيقية عالمية مشهورة متعددة مثل فرقة MGMT، وقاد بعضًا من أكبر التأملات في العالم، وألقى كلمات رئيسية في فعاليات مؤسسة فورتشن ( 100 Fortune)، كما قام بتدريس التأمل لبعض القادة العالميين. وقام بإدارة جلسات تأمل لموظفي ومنسوبي شركات عالمية مثل اديداس للملابسة الرياضة، وجوجل، وشركة فورد للسيارات، وتحدث في أماكن ذات قيمة عالية مثل حديقة مربع ماديسون (Madison Square Garden) ، والمقر الرئيسي لشركة كوكا كولا ، ومدرسة بارسونز العريقة الشهيرة في التصاميم، كما استضافته أوبرا وينفري (Oprah Winfrey) ، اشهر مقدمة برامج حوارية أمريكية واعلامية مخضرمة. ففي بداية عام 2020، تمت دعوته للذهاب في جولة مع أوبرا وينفري لقيادة تأملات جماعية في الساحات التي بيعت تذاكرها بالكامل في جميع أنحاء الولايات المتحدة. وقد تم عرض أعماله في اشهر الصحف والمجلات الأمريكية العالمية مثل نيويورك تايمز، فايس، فوغ، فاست كومباني، جي كيو، وصحيفة وول ستريت جورنال، كما صرح في احد لقاءاته عن تلقيه دعوات من اكثر من 500 مدينة حول العالم تطلب منه اقامة فعاليات "الهدوء الكبير" لمواطنيها وسكانها للاستفادة من تجاربه العميقة في التأمل والسلام الروحي والنفسي لمواجهة ضغوطات الحياة الصاخبة في تلك المدن. ومع هذا يؤكد المحللون والمتابعون بأن حركة "الهدوء الكبير" ليست مجرد سلسلة من الجلسات التأملية - بل هي حركة تسعى إلى تحدي القيم المسيطرة للإنتاجية والاستهلاك التي تهيمن على المجتمع الصناعي الحديث. ففي عالم تُقاس فيه النجاحات غالبًا بالإنجازات الخارجية والممتلكات المادية، يقدم جيسي رؤية مختلفة - متجذرة في الغنى العميق للتجربة الداخلية والاتصال الإنساني. فمن خلالها، ظهر جيسي كصوت رئيسي في الثورة الهادئة - كحركة عالمية تحتفي بقوة الصمت والتفكير الداخلي والتواصل في تعزيز الرفاه الشخصي والتغيير المجتمعي. فقد ألهم جيسي بحركته هذه العديد من الأفراد والمجموعات وحتى والمؤسسات لاعتناق اليقظة كمسار نحو الوفاء الأكبر، والبحث عن لحظات السكون وسط فوضى الحياة اليومية.

أخلص وأقول، بأن ظهور فعالية عالمية كحركة "الهدوء الكبير" هي انعكاس طبيعي ورد فعل متوقع كمحاولة لترميم ما يعانيه الانسان الغربي من فراغ روحي، وشروخ نفسية عميقة، كنتيجة حتمية لتوابع الثورة الصناعية والرقمية التي تحول فيها الانسان إلى جسد مادي مرهق منزوع المشاعر الانسانية والاجتماعية، ينقاد بالسلاسل إلى كل ما هو مادي مرهق. فالإنسان عبارة عن ثلاثية متناغمة مكونة من (الجسد - الروح/النفس – العقل) تتفاعل فيما بينها بسلاسة وانضباط محكومة بتصرفات العقل واختياراته اليومية المبنية على العلم والدين والمعرفة. والتعامل مع الثلاثية وادارتها برشد يتطلب منهجا متكاملا عليم ومحيط بطبائع الثلاثية وخباياها.

ولا أعتقد من وجهة نظري أن – حركة الهدوء الكبير – ستفي بالمطلوب في سد الفراغات والفجوات الروحية والنفسية للمجتمعات، ومع الوقت ستتحول إلى مشروع ربحي مادي (business model) يستفيد منه القائمين عليه وأصحاب المصلحة. فهي وان بدت مرغوبة لدى قطاع واسع من المجتمعات الغربية - لكن في تصوري مع مرور الوقت - ستفقد بريقها، وتتحول إلى مشروع مادي يغذي النموذج المادي الغربي الأوسع. والغريب ان ظاهر ممارسة رياضة اليوغا – وان كانت على نطاق ضيق - بدأت تتسلل ولو - بهدوء وصمت - إلى مجتمعاتنا الإسلامية – وفي تصوري ستتبعها حركة "الهدوء الكبير" – لتغزو بلادنا، كوسيلة للبحث عن التوازن الروحي والنفسي محاكاة للغرب بعد ان انخرطنا في المادية الجارحة أسوة بهم.

على العموم الموضوع مهم وملح لفتح باب النقاش فيه ودراسته للوقوف على اسبابه ومآلاته، ومدى ملائمته لمجتمعاتنا العربية والاسلامية.

وللتعرف على المزيد عن حركة "الهدوء الكبير"، يرجى النقر على الرابط أدناه:

https://www.thebigquiet.com

💓 1
Comments (4)
      • 1
      • جزاك الله خيرا يا دكتور فتحي على مداخلتك القيمة التي رصدت واقع أليم ومحزن لشباب وشابات الغرب الذين انغمسوا في نفق الادمان،، وانتهت حياتهم نهاية أليمة،، وأن مثل هذه المسارات والمآلات المرعبة ليست ببعيدة عن ابناء المسلمين المغتربين ما لم تتكاثف جهود الآباء والأمهات والأسر والمجتمعات المسلمة في الغرب للتصدي لهذه الظواهر السلبية،، وكما المحت في مداخلتك القيمة ان المنهج الاسلامي غزير بالعافية النفسية والروحية،، واضم صوتي إلى صوتك بترتيب حوارات عبر الزووم لمناقشة مثل هذه القضايا المهمة. شكرا مرة ثانية حبيبنا افتوحه،، وتحياتي لكم

        • 1
        • مقال جدا رائع وتحليل مفصل … جزاك الله خير

          • 💓 1
        • جزاك الله خيرا دكتور عبد الباسط كتابه متانيه رائعة واسلوب جميل ,ثم التحليل واسقاطه على الوقع الاليم ، 

          يقول تعالى"من اعرض عن ذكري ، فإن له معيشتا ضنكه ونحشره يوم القيامة اعمي..........الى اخر الاية. "

          وللاسف هذا ما نراه في الغرب على وجه الخصوص وما بدا ينتشر بين شباب الشرق تتبع لما يسمعها تحريفا الحضاره الغربيه وهي ليس من الحضاره في شيء. وهكذا هي ضريبه الابتعاد عن الله سبحانه وتعالى المعيشه الضنك والتيه واما الانعماس في الملذات التي تنتهي للاسف الى المزيد من السقوط والضنك و الهوس الذهني والجنون او سقوط في فخ الانحرافات والشذود واستخدام المهدئات للهروب من واقعهم المزري الذي يقود الى مزيد من الهبوط والضنك . الايه "ومن يعتصم بالله فقد هدي الى صراط المستقيم" والايه "بلا من كسب سيئه واحاطت به خطيئته اولءيك اصحاب النار هم فيها خالدون" وعندم تفشل كل اساليب يلجاء هولاء المتاعيس اما للسحر والشعوذة او مديتشيان بكل انواعها لعلهم يجدون السلام مع انفسهم الكئيبة ،وهنا يبرز دور الدعاة الى الله لانقاذ هذه الانفس المعذبة ، والعودة بها الى نداء الفطرة السوية حيث الامان المفقود وهذا احد الادوار الراءيدة للمغتربين وهو دعوة البشرية الى دين الله "ان الدين عند الله الاسلام "

          • 2
          Login or Join to comment.