من الذاكرة (٩) مها....الرحلة الاخيرة.... (الصفحة الرابعة)

قالت مها...

هل تذكر يا أبي عندما كنت ترفعني على عنقك في أزقة روما الضيقة عندما اتعب من السير الطويل صائحة "اشرومني يا ابي" وارى ابتسامة هادئة، وانا كيف لي ان انسى ايضا وانت تمتطين ذلك الجواد معي في مزارع اسكوتلندا وغابات ساسكتشوان في كندا، وكيف يمكن ان انسى وقد كنت ممتعا ايضا، عندما رويت لي قصة تاجر البندقية وانا استمع لك وأتفرس في ربطة عنقك الجميلة....

هل تذكر يا ابي عندما سالتني ان اغمض عيني، وان امد يدي الصغيرة لتشبك بها تلك الساعة الجميلة التي لاطالما تمنيتها على ساعدي منذ زمن طويل وانت افنيت وقت طويل تبحث عنها في حواري هونالولو، ثم اهديتني تلك القبلة الجميلة على يدي وقلت لي "انتي اثمن منها يا مها "....

ولعلك لم تنسَ كلماتك عن الموت ماهو الا تلك القوة التي سخرها الله سبحانه تاتي لتقتات على مائدة الحياة الضخمة ، ثم ننتقل الى حياة فسيحة ورحبة فيها ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، واني التمس شعاعها الان يا أبي، وانا اودعك الان لا ادري ماذا اقول لك ؛ لعلى اقول استودعك الله سبحانه وتعالى يا ابي ، الى ان نلتقي في جنات الخلد بمشيئة الله سبحانه وتعالى...

قلت انا....

انتِ لعلكِ همستِ في اذني- وانا القي براسي الثقيل على وجنتيكِ الورديتين الصغيرتين واحاول ان ارسم بشفتي المرتعشتين القبلة الاخيرة-لعلكِ همستي في اذني " انا بخير يا ابي لا تجزع فهناك الملتقى"، فهذه هي المحطة الاخيرة، واختارني ربي ان أسبقكم الى هناك...

ها انت يا ابي - عودة على بدء تغطي جسدي الصغير وتقبل جبيني البارد ، وترسم بشفتيك الدافئتين على شعري المبلل مسحة حنان كلما ضاق بك الافق، وتذرف قطرات كالندى البارد من عينيك المغرورقتين بالدموع وانت تتلمس بهدوء رحلتك الى الله تعالى . لا يمكن ان تنسى وانت تذكرني دائمًا "انما الحياة عقيدة وجهاد".....

قلت ....مها الغالية ها أنت تغادرين هذه الدنيا الفانية، وارى شفتيكِ تبتسمان بسرور دفين في اعماقكِ او لعلكي تسخرين ممن يتكالبون على هذه الدنيا الغرور وانغمسوا في شهوات ضيقة الافق ، محصورة المعالم يدورون ويتلمسون لعلهم يجدون مصباح هدى ينير لهم الطريق ولعلكِ ايضا برحلتكِ الى الله المبكرة ان تبعثي نورا في قلوبنا نحن الاحياء ان نتفكر ونعيد التدبر في قدرة الله العظيمة التي لايقف امامها الصغير ولا الكبير، لا الصحيح ولا المريض...

قلت ....ما أعظمكِ وما أطيبكِ حية وميتة ، حتى وانت تغادرين هذه الدنيا لم تنسِ ان ترفعي اصبعكِ بشهادة ان لا اله الا الله وان محمدًا رسول الله ، انا كنت استرق النظر في سيارة الاسعاف وانا اتلو عليكِ سورة ياسين التي حفظتيها عن ظهر قلب وكنتِ تتلونها كثيرا في صلاتكِ...

قلت ....لا أملك ايها الحبيبة الغالية الا  ان ادعو لكِ دائما ان يتقبلكِ الله سبحانه وتعالى في ملكوته ويدخلكِ جنته مع الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا....

غادرت هذا الكون أنت سعيـدةٌ وتركتِ ناراً في الفـؤادِ تسعَّـرُ

آهٍ ، أحقاً ما أرى ؟ وا كربتـي هذا فؤادي في التـراب سيقْبَـرُ

بل طار عقلي لم أصـدقْ أنَّ ذا كبدي مسجَّى في الفراش فأنْكِرُ

وازداد حزني حين جاءوا يحملوا تلك الشهـادةُ بالنجـاحِ تُبَشِـرُ

ترتيبك الثاني على الفصل الذي كانت زواهـرُ عطْـرِهِ تتبخْتَـرُ

لكن شهادتك الرفيعة قـد أتـت في الماء يا بـرداً نـداهُ يُقَطِّـرُ

فاضت به روح البـراءة للعُـلا تسمو إلـى ربٍ رحيـمٍ تعْبُـرُ

أدعوك يا رباهُ تُسكِـنُ روحهـا في دار خلدٍ في نعيمِـكَ يعْمَـرُ

ما حيلة المسكين ربِّي ان تكن عني رضيت فإن قلبي شاكر