- · 7 friends
-
ا
- · Advanced Member
هل أدلك على شجرة الخلد؟ شجرة الخلد وجوهر انظمة الرعاية الصحية
لمّا امتنع ابليس اللعين عن السجود لأبينا آدم عليه السلام، وطرده الله من الجنة ومن رحمته الواسعة، تطرق القرآن الكريم إلى ذكر قصة الحوار الذي دار بينه - لعنه الله- وبين سيدنا آدم - عليه السلام- في أكثر من سورة. وعرض الحوار بطرق متنوعة تشير جميعها إلى كيفية تخابث ابليس اللعين على أبينا آدم وأمُّنا حواء. فقد هيأ الله الجّنّة لأبينا آدم ليسْكن فيها هو وزوجه، ويجدوا فيها كل ما تشتهيه الأنفس من ثمرات وأكل وشراب ودفء وراحة وغيرها باستثناء شجرة ما، أمرهم الله ألا يقربوها ولا يأكلوا منها، لحكمة أرادها الله سبحانه وتعالى. وهنا جاء ابليس اللعين متخابثا يدّعي النصح لهما، قائلا: ﴿ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إلّا أنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أوْ تَكُونا مِنَ الخالِدِينَ﴾، وفي آية أخرى قائلا: ﴿ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ﴾. إذا الإغراء والإغواء الذي ألقى به الشيطان في نفس آدم عليه السلام ينقسم إلى شقْين اثنين: شجرة الخلد (foreverness, eternity tree)، وملك لا يبلى ((ownership does not wear out. في الحقيقة هاذان الأمران هما المحرّكان أو الغريزتان اللّتان من خلالهما أغوى بهما ابليس اللعين آدم وحواء. فشجرة الخلد تمثل غريزة مجبول عليها بني آدم وهي التطلّع للبقاء والعيش والخلود إلى الأبد، وشجرة المُلْك، تمثل غريزة حب التملّك للأشياء مثل المال والسُّلطة والجّاه وغيرها. حتى سيدنا سُليمان – عليه السلام – سأل الله الملك قائلا: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ﴾. وفي حديث عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما: أن رسول الله ﷺ قال: لو أن لابن آدم وادياً من ذهب أحب أن يكون له واديان، ولن يملأ فاه إلا التراب، ويتوب الله على من تاب، اخرجه البخاري. كما اشار ابن خلدون إلى أن الملك ينزع نحو التفرّد لا المجموع والمشاركة.
وبإمعان النظر في ثنائية "الخلد" و"الملك" نجد في الحقيقة ان استخلاف الأرض واعمارها لن يتم إلا بوجود هذه الغرائز أو المُحرّكات. فالحياة الدّنيا لن تستقيم ولن يتم الاستخلاف والإعمار فيها في غياب هذه الثنائية. فالله سبحانه وتعالى فطر الإنسان على حب الخلود وحب الملك،، ولو لم يفطر الناس على هذه الاشياء وزهدوا فيها لما استقامت الحياة الدنيا ابتداء. لكن التوق والانشغال المحموم في البحث عن "شجرة الخلد" و"الملك الذي لا يبلى" بين بني البشر دون ضابط ولا رقيب ولا حسيب، تقع معه الطامة، وتستحيل معه الحياة البشرية إلى صراع نكد نعيشه على مدار الساعة، كما نلحظها في زمننا الحالي. فجل انحرافات بني البشر عبر العصور (ماضيا وحاضرا) منشأها التعامل الخاطئ مع هذه الكلمات المفتاحية (الخلود والملك) واحتضانها والتعاطي معها دون وعي ورشد. لذا بعث الله الرسل، وخاتمهم النبي محمد صل الله عليه وسلم، ليرشدوا الناس إلى التعامل السوي مع هذه الكلمات أو المحركات لتستقيم دنياهم وآخرتهم.
وبالإشارة إلى عنوان المقالة، ما يهمنا هنا هو محرك "شجرة الخُلد"، وكيف تحولت شجرة الخلد وأصبحت هي الفكرة التي تأسّست وبُنيت عليها فلسفة وآليات أنظمة الرعاية الصحية منذ نشأتها. فغاية أنظمة الرعاية الصحية وهدفها الأسمى التي تدّعيه وتعمل على تحقيقه هو تمكين الناس من العيش أطول مدة زمنية ممكنة وبصحة جيدة (to live longer and healthier). و بامعان النظر في دور الأنظمة الصحية ومدارس الطب المختلفة ومن حولها ابحاث الطب الحيوي، نجدها جميعا تعمل نحو تحقيق هذه الغاية، وهي زيادة متوسط طول عمر الإنسان. لذلك يعتبر ارتفاع معدل متوسط العمر المتوقع للناس (life expectancy) من أهم مؤشرات آداء أنظمة الرعاية الصحية. فكلما زاد متوسط عمر الأفراد في حقبة زمنية ما، كلما اعتبر قياس آداء أنظمة الرعاية الصحية وغيرها من الاجراءات الأخرى فعال وحيوي. لكن ما يغيب عن ذهن الناس بمن فيهم المشتغلون في انظمة الرعاية الصحية من أطباء وأطقم تمريض وغيرهم من العناصر الفاعلة في منظومات الرعاية الصحية هو أن جوهر هذا المؤشر في الحقيقة هو إعادة تدوير شجرة الخلد وتسويقها بأشكال وسياقات مختلفة حسب ظرفي الزمان والمكان. وبين شجرة الخلد الأولى التي اغوى بها ابليس أبينا آدم في الجنة، و اشجار الخلد المتنوعة المزروعة حاليا داخل انظمة الرعاية الصحية في الدنيا، يجتهد ابليس ويتخابث جاهدا لإحزان الناس واخراجهم من جنة الإيمان والحياة الطيبة المحفوفة بالصحة والعافية إلى براثن الحياة النكدة المحزنة المخلوطة بالأمراض والأدواء.
وفي تصوري ان شجرة الخلد من منظور انظمة الرعاية الصحية هي متغيرة ومتنوعة بتنوع المرض واداة التشخيص والعلاج أيضا. فشجرة الخلد في الأمراض السارية (المعدية) التي تسببها البكتيريا والفيروسات تتمثل في ادوية المضادات الحيوية والتطعيمات بينما شجرة الخلد في الأمراض المزمنة المعقدة كأمراض السرطان وأمراض القلب مثلا تتمثل في اجهزة تشخيصية وعلاجية تختلف عنها في الأمراض المعدية السارية ذات الاسباب المعروفة، وهكذا دواليك.
فمثلا عندما اجتاح فيروس كورونا (كوفيد -19) العالم مع نهاية عام 2019م، وبدأ الانتشار على نطاق واسع ليضرب اغلب دول العالم ويصنف على أنه وباء عابر للحدود (pandemic)، بدأت النقاشات والدراسات الطبية البحثية العلمية تبحث عن اسباب هذا المرض الغريب، ومعرفة سماته المرضية، وكيفية الحد من انتشاره والقضاء عليه بتقليل عدد الاصابات والوفيات، والعودة بالناس إلى الحياة الطبيعية. ففي بدايات الجائحة عندما بدأت تضرب أوروبا وأمريكا بعد ان اجتاحت الصّين، حرصت الإدارة الأمريكية حينها في التعاطي مع الجائحة بقلق وريبة، مما اضطرت معه الادارة الأمريكية بقيادة دونالد ترامب مع نائبه وطاقم مستشارين من مركز التحكم في الأمراض (CDC)، للخروج في مؤتمرات صحفية من البيت الأبيض تبث مباشرة يوميا عبر القنوات الأمريكية للحديث حول الجائحة وعرض آخر المستجدات حول اسباب انتشارها والاجراءات الاحترازية المطلوبة لمكافحتها، والتقليل من مخاطرها الصحية والاقتصادية على البلد. وقد استخدم ترامب صلاحياته كرئيس للولايات المتحدة الامريكية وقام بتفعيل قانون الطوارئ وقانون الإنتاج الدفاعي (DPA) (The Defence Production Act)، لدعم برامج الأمن الداخلي، ولتسريع وتوسيع توريد المواد والخدمات من القاعدة الصناعية الأمريكية اللازمة لتوسيع القدرة الإنتاجية والإمداد اللازم لأغراض الدفاع الوطني الأمريكي. ففي تلك الأيام أمر الرئيس ترامب من الشركات الصناعية الضخمة مثل فورد وجنرال موتورز من تغيير خطوط أنابيب انتاجها لمحركات السيارات والطائرات واستبدالها بانتاج اجهزة التنفس الصناعي لإنقاذ حياة الناس المصابين بالاختناق وفشل الجهاز التنفسي لديهم داخل العنايات المركزة وأقسام الطوارئ للمستشفيات المختلفة لإنقاذهم من الموت. ففي تلك الحقبة من بدايات الأزمة كانت شجرة الخلد – في تصوري - متمثلة في "اجهزة التنفس الصناعي" (ventilators). وبعد مرور عام تقريبا على الأزمة وانطلاق السباق المحموم بين شركات الأدوية في انتاج لقاح كورونا، وإلزام الناس واجبارهم على أخذه وإلا منعوا من السفر ومن مزاولة حياتهم الطبيعية، تمثلت شجرة الخلد حينها في "لقاح كورونا" (vaccine)، وفي الفترة الزمنية التي توسطت انتاج اجهزة التنفس الصناعي وانتاج لقاح كورونا، كانت كمامة الوجه (face mask) هي من يمثل شجرة الخلد، وهكذا دواليك. فشجرة الخلد هي فلسفة أنظمة الرعاية الصحية ومحركها الجوهري.
كما تظل غريزة أو محرك "الملك الذي لا يبلى" غاية في الأهمية في تسريع وتسعير عملية تدوير شجرة الخلد هذه. فأنظمة الرعاية الصحية ومن يديرها من كوادر بشرية متنوعة إدارية تخطيطية، وتشريعية قانونية، وتشخيصية علاجية، وتعليمية توعوية وغيرها، كل هذا الكادر البشري الذي يقف خلف هذه الصوامع والمؤسسات الصحية يحركها حب "التملك" المال تحديدا، وفي الضفة الأخرى يقف المريض المصاب بالأمراض المتنوعة باحثا وراغبا في "الخلود". وما بين "الخلود" و"الملك"، أو من رحم هذه الثنائية تدار عجلة صناعة الرعاية الصحية وتروج لتصبح أكبر صناعة عرفها الإنسان منذ هبوطه من الجنة ليستعمر الأرض ويستخلفها.
ما ذكر سابقا كان يدور حول معطى "شجرةُ الخُّلْد" وجوهر أنظمة الرعاية الصحية المحمول على عاتقها مكافحة الأمراض في صور عدة منها توقعه، وتشخيصه، وعلاجه، ومتابعته،، الخ. فقد تشعّبت في حقبتنا الزمنية هذه الأمراض وتعقّدت وانتشرت بصورة غير مسبوقة استحالت معها حياة الناس إلى هم وغم ونكد وحيرة ليس لها نهاية. وقد تعددت اسباب تنوع وانتشار هذه الأمراض، ليس هنا محل ذكرها. فكما يقال في الأمثال العربية المشهورة: لقد "اتسع الفتق على الراتق، أو اتسع الخرق على الراقع". ومعناه زاد الفساد والعطب الى درجة كبيرة لايجدي معها أى أصلاح. ويضرب هذا المثل لما يتجاوز فساده - وهنا مقصود به المرض - كل حد. لكن السؤال الأهم – في تصوري- هو: ألا يمكن التفكير في طرق أخرى تهتم بالصحة والعافية بدلا من اعادة تدوير شجرة الخلد النّكدة هذه "جوهر المرض"؟.
لعلّنا نفرد مقالة أخرى تتطرق إلى مناهج تفكير أخرى بعيدة عن منهجية مطاردة الأمراض والانشغال بها - منهجية "تدوير شجرة الخلد" إيّاها - إلى منهجية أخرى أكثر نجاعة تُفتح فيها أبواب العافية وتغلق فيها مزاليق المرض.
-
- · فتحي إدريس
- ·
إسقاط رائع ودقيق دكتور عبدالباسط. كما تفضلت، فإن أنظمة الرعاية الصحية قد تدور حول هذه الثنائية. ولكن بالنسبة للمواطنين في هذا الجزء من العالم الذي أعمل فيه، فهناك بعضهم لايحبذ "الخلد" أو إطالة أمد الحياة، مالم تكن "جيدة". ولذا تشيع هنا "وصايا" عدم إطالة الحياة بدون معنى، ويصر أهل المريض في عدة حالات على التذكير بها، قبل أن تنخرط المنظومة الصحية في إخضاعهم لتروس المنظومة التي تسعى إلى شجرة الخلد.
-
شكرا اخي فتحي على تعليقكم على المقالة. نعم أحسنت، فهذا البعض الذي اشرت إليه من سكان الغرب لا يحبذ الحياة المغموسة والمخلوطة بالأمراض، بل ينشد اطالة أمد الحياة بصحة جيدة. وهذا ما اشرنا إليه تماما إلى الهدف التي تدّعيه انظمة الرعاية الصحية، و هو تمكين الناس من اطالة حياتهم وبصحة جيدة (to live longer and healthier). وفي تصوري ان محرك هذا الشعور أو الطلب أو الحرص والتوصية على إنهاء الحياة المغموسة بالأمراض والمعاناة لدى هؤلاء البعض من الغربيين هو اختلال وضبابية المعنى والمفهوم الفلسفي والعقدي والثقافي لمفهوم الحياة والموت عندهم. أي بمعنى اختلاف العقائد لديهم ولدى المسلمين. ففي المفهوم الإسلامي ان الدنيا مزرعة الآخرة وانهما متصلتان لا انفصام بينهما. وغاية المسلم هو دخول الجنة والنجاة من النار. ولذلك جاء القرآن الكريم، وجاءت احاديث الرسول ﷺ ترسخ لهذا المعنى الأصيل في العقيدة الإسلامية، وأن طول العمر ليس غاية في حد ذاته، فالغاية هي طول العمر وحسن العمل كاستثمار لدخول الجنة والفوز بها. وقد اشار النبي محمد ﷺ في احاديث عدة إلى طلب الموت وأن يتوفاه الله في حالة انتشار فتنة بين الناس. مثل دعائه في حديث طويل بقوله: (إذا أردتَ فتنةً في قومٍ فتوفَّني غيرَ مفتونٍ)، وفي حديث آخر سائلا المولى عز وجل قائلا: (اجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر). وهنا نلاحظ أن الرسول صل الله عليه وسلم طلب من الله ان يقبض روحه في حالة الشرور والفتن، وهذا يعنى أن طلب الحياة والعيش في الدنيا ليس غاية في حد ذاتها، وانما الغاية هي حسن العمل والفوز بالجنة والنجاة من النار. وهذا مبحث آخر عظيم يجب أن يبحث فيه عن معنى الشرور والفتن التي اشار إليها الرسول محمد صل الله عليه وسلم. كما انه في المقابل جاءت احاديث كثيرة وادعية للنبي محمد صل الله عليه وسلم يسأل فيها الله العافية في الدنيا والآخرة، كقوله صل الله عليه وسلم: (اللَّهُمَّ إنِّي أسْألُكَ اليقين والعفو و الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ)، ولفظه عند الترمذي: (سلوا الله العافية في الدنيا والآخرة)، وفي لفظ آخر: (سلوا الله العفو والعافية فإن أحداً لم يعط بعد اليقين خيراً من العافية)، وهذا مفهوم عظيم يرسخ لمفهوم العافية المستدامة (sustainable wellness)، لا العافية المنقوصة المحصورة في الدنيا فقط، فكمال العافية يكون في جنات النعيم، وجنة الفردوس الأعلى. كما أن هناك مفهوم آخر عظيم في حالة الإصابة بالأمراض أو المصائب والآلام. فالإصابة بالمرض عند المسلم قد تكون له خيرا لا شرا، كما اشار القرآن الكريم في قوله تعالى: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ)، وهذا لا يعنى ان يتمنى الإنسان الأمراض والمصائب بل هي توجيه رباني إلى معاني خفية اكبر من الظاهرة. كما أن هناك معنى عظيم آخر اشار إليه حديث الرسول ﷺ: (عَجَباً لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ للْمُؤْمِن: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خيْراً لَهُ). رواه مسلم، وهذا الحديث الأخير يقعّد لمصطلح عظيم آخر اسميه بمسمى العافية الشخصية (personalized wellness)، في مقابل مصطلح الطب الشخصي (personalized medicine) الذي انتشر في العقود الاخيرة في الأوساط الطبية بعد انتهاء مشروع الجينوم البشري. وهذه المعاني والمصطلحات في مفهوم المرض والعافية – في رأي - لم تدرّس لنا في مناهج الطب الحديث، ولم يشر إليها حتى تلميحا في المراجع العلمية المختلفة. وانا شخصيا متفهم تماما لهذا الغياب الواضح لهذه المعاني العظمية والجليلة لأن الانتاج االمعرفي في علوم الطب والرعاية الصحية في القرون الثلاثة الأخيرة هو منتج غربي صرف ليس لنا فيه – للأسف - بصمة تذكر. عموما الحديث والشرح يطول اخي الحبيب فتحي، نسأل الله ان يفتح عليك فتوح العارفين، وان يجعلك كالغيب النافع، آمين. تحياتي،،