·   ·  29 posts
  •  ·  6 friends
  • ا

    7 followers
  •  ·  Moderator

هل "الطب الشخصي" حقيقة أم خيال؟ Is "Personalized Medicine" Fact or Fiction

وصل العالم اليوم إلى حالة مذهلة من التقدم العلمي في أغلب المجالات العلمية الطبيعية بشقيها الأساسي والتطبيقي. انعكس هذا التقدم على الأخص في مجال العلوم الطبية الحيوية التطبيقية (applied biomedical sciences) متأثرا بالثورة الرقمية التي نعيش تأثيراتها اللحظية والمختلفة في حقبة عصر المعلومات الرقمي (digital era). فقد ساهمت الكثير من الأفكار والرؤى والاكتشافات والابتكارات في مجال الطب الحيوي على مدار قرنين من الزمان تقريبا في تحسين أنظمة الرعاية الصحية ووصولها إلى الحالة الراهنة، متطلعة إلى مستقبل أكثر تفهما وتعاملا بدقة مع الأمراض المختلفة التي تصيب الناس من حيث التشخيص والعلاج. لكن يظل مشروع الجينوم البشري (Human Genome Project) أحد أهم المبادرات الفضولية العلمية المذهلة (فكرة ورؤية) التي أرخت بظلالها في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الـ 21 على جميع مجالات علوم الحياة وفي مقدمتها مجال أبحاث الطب الحيوي، والتي بدورها غيرت من مفهومنا التقليدي للرعاية الصحية المأسّس والمبني على منهج (one size fits all) لتتجه بوصلتها نحو رعاية صحية أكثر دقة وشخصنة. فكما فتحت قوانين غريغور مندل النمساوي في علم الوراثة أبوابا بحثية استمرت قرابة القرن من الزمان، فمشروع الجينوم البشري يعتقد بأنه سيفتح الأبواب في البحث العلمي لعدة قرون تالية في المستقبل. فقد أدت فكرة مشروع الجينوم البشري إلى فتح الأبواب على مصراعيها وبقوة نحو الاستثمار في مجالات عدة من أهمها مجال التقنيات الحيوية (biotechnologies)، وذلك لاستخدامها كأدوات مهمة تساعد في سبر غور التعقيد البيولوجي للإنسان ومعرفة كنهه ومن ثم إمكانية محاكاته أو حتى إصلاحه وتعديله.

فمشروع الجينوم اهتم بداية بفك الشفرات الجينية لمادة الـ DNA، في خلايا الإنسان. هذه في حقيقة الأمر كانت أصل فكرة المشروع، بعد أن طرحت وزارة الطاقة الأمريكية (DOE) سؤالا فضوليا هاما على المجتمع العلمي في بداية عقد الثمانينات من القرن الماضي "عن مدى تأثير الإشعاع النووي على مادة الـ DNA؟". وللإجابة على هذا السؤال الفضولي تم التفكير والشروع في دراسة وبحث التسلسل الجيني لمادة الـ DNA لدى الإنسان، وذلك بفك الشفرة الجينية له. أي بالتعرف على الخارطة الجينية (genotype) لخلايا الإنسان ومعرفة عدد الجينات (المورثات) وأنواعها المسؤولة عن تحديد شكل الإنسان ولونه وطوله وكذلك صفاته وأنماطه الظاهرة (phenotype) مسترشدون بأفكار مندل في علم الوراثة، ليفتح هذا السؤال أبوابا عديدة وتساؤلات كبيرة في حقول علوم الحياة والطب الحيوي لم تكن تخطر أصلا على بال من طرحوا السؤال ابتداء. ولكي يتم التعرف على الخارطة الجينية لخلايا الإنسان، تم الشروع في فك شفرات الخرائط الجينية للكائنات الحية الأخرى (كالبكتيريا، وذبابة الفاكهة، والفئران، والكلاب، والقرود، وغيرها) ومقارنتها بخارطة جينات خلايا الإنسان، كما تم الاستعانة بالجينومات الأخرى لمقارنة عدد جيناتها بجينات خلايا الإنسان، وأيضا للتعرف على وظائف الجينات نفسها من خلال ما يعرف بـعلم الجينوم المقارن (comparative genomics) وهو مجال من مجالات البحث البيولوجي يستخدم فيه الباحثون مجموعة متنوعة من الأدوات لمقارنة تسلسل الجينوم الكامل لأنواع الكائنات الحية المختلفة.

ومنذ أن أعلن عن الانتهاء عن ما نسبته 92% من مشروع الجينوم البشري – أكبر مشروع حيوي عرفته البشرية - في إبريل من عام 2003، بدأت تخرج من عباءة المشروع أفكارا وتخصصات علمية جديدة ومتنوعة لم تعرف من قبل في مجال الطب الحيوي، كما وقّعت مذكرات تفاهم لتحالفات ومبادرات لمشاريع بحثية عالمية في الأوساط العلمية متخطية الحدود الجغرافية للدول المشاركة في إنجاز المشروع، ليشهد العالم بعد 3 عقود تقريبا من بدء المشروع ثورة علمية هائلة في مجال علوم الطب الحيوي مازلنا شهودا عليها. ومن رحم المشروع انطلق الباحثون، وصناع القرار، والمشرّعون في مجال علوم الحياة والطب الحيوي في تلقف الفكرة والبناء عليها من خلال البحث العميق في مجالات الجينوم المختلفة وتسخير هذه الأفكار والابتكارات في مكافحة الأمراض والعمل على القضاء عليها. فعلى المستوى التشريعي القانوني، تم سن تشريعات ولوائح قانونية ترشّد وتصوّب للجوانب والآثار الأخلاقية والقانونية والاجتماعية (ELSI rules and regulations) في البحث العلمي عند التعامل مع الكائنات الحية المختلفة، كما تم فتح صناديق الدعم المادي الضخم لدعم الأفكار والابتكارات والمنتجات التي برزت وتنوعت على ضفاف المشروع، كما أسّست ثقافة التحالفات والمبادرات البحثية العالمية التي تضم شبكات ومجموعات بحثية من العلماء والباحثين من جميع التخصصات العلمية والحقول المعرفية المتنوعة ومن بلدان عدة، كما عقدت المؤتمرات والندوات العلمية في بلدان العالم الفسيح وعلى مدار الساعة في مجال الطب الحيوي يتثاقف فيها الباحثون والعلماء ويتبادلون الآراء والأفكار حول المشروع وآليات الاستفادة منه في صناعة حياة الشعوب والأمم. كما لعب الإعلام بوسائطه المختلفة دورا مهما في التعريف بالمشروع ومتابعة إنجازاته وكذلك رصد تحدياته التي يواجهها من حين لآخر، كما دخل القطاع الخاص المتمثل في (شركات الأدوية والتقنيات الحيوية) ليكون له نصيب الأسد في المشاركة والدعم وتدوير عجلة اقتصاد الدول الكبرى مستفيدا من الآراء والأفكار الضخمة التي تنضح من معين المشروع. كما تم ولأول مرة بروز مصطلح مشاركة البيانات البحثية (research data sharing) في الأوساط العلمية، وذلك من خلال سن قوانين ولوائح منظمة لتبادل المعلومات وحقوق ملكيتها وحجبها وإعادة تدويرها والاستفادة منها في البحث العلمي، وذلك من خلال إنشاء بنوك للمعلومات الحيوية (biodata repositories) هدفها معالجة بيانات الجينوم الأولية الخام الضخمة (raw data)، ومن ثم تخزينها في وسائط حاسوبية سحابية (data cloud storage) على أن يتم مشاركتها عن بعد (remotely) مع الباحثين والعلماء والمهتمين أينما كانوا.

والحديث عن مشروع الجينوم البشري لا يمكن الإحاطة به لضخامته وتعقّده،وكذلك لآثاره المتنوعة في المجالات العلمية المختلفة متخطيا المجال الطبي الواسع (كعلوم الطب الشرعي وطب الكوارث) ليطال مجالات أخرى مثل علوم النباتات، وعلوم البيئة والتلوث البيئي، وصناعة الوقود الحيوي، والصناعات الدوائية، والزراعية، والصناعات الغذائية، والانثروبولجي وغيرها. كل هذه العلوم والمعارف تكونت أو تطورت - بلا منازع - من رحم مشروع الجينوم البشري. وتجدر الإشارة هنا إلى أنه ولأسباب وتحديات تقنية استغرقت الفترة الزمنية لإكمال النسبة القليلة المتبقية من المشروع حوالي 20 عاما أخرى، فقد أعلن وتحديدا في شهر إبريل من عام 2022 الانتهاء من إكمال المتبقي (8%) من تسلسل الجينوم البشري من خلال تحالف Telomer to Telomer (T2T) consortium، لكن غايتنا هنا هو تنوير القارئ بشذرات قليلة من المعرفة حول المشروع، لننطلق متجهين نحو التعرف أكثر على المصطلح الأهم "الطب الشخصي" الذي عنون به هذا المقال في تساؤل فضولي يحتاج – في تصوري - إلى عقد ندوات ومناقشات ودراسات عميقة للإجابة عليه: "هل الطب الشخصي: حقيقة أم خيال؟".

وقبل الشروع في المساهمة في الإجابة عن هذا السؤال، دعونا نتعرف أولا على مصطلح "الطب الشخصي"، الذي يعد أحد أهم وأبرز المفاهيم والمصطلحات التي خرجت من تحت عباءة/مظلة مشروع الجينوم البشري. فالطب الشخصي (personalized medicine) (individualized medicine)، تنوعت أسماؤه ومرادفاته لتشمل الطب الدقيق (precision medicine)، وطب الجينوم (genomic medicine)، والطب المنظومي (systems medicine)، وأيضا عرف بـ (P4 health)، وهي اختصار لـ (Predictive, Preventive, Personalized and Participatory)، كما تنوع أيضا تعريف أو مفهوم "الطب الشخصي" بين الأوساط البحثية العلمية ليشمل عدة تعريفات ومفاهيم منها ما لاقى استحسانا ومنها ما تم رفضه، لكن يظل التعريف الأكثر شيوعا وقبولا في الوسط العلمي هو التعريف التالي: فالطب الشخصي يعرف على أنه "العلاج المناسب، للشخص المناسب، في الوقت المناسب، في كل وقت وحين"، وترجمته (The right treatment, to the right person, at the right time, every time)

وقبل الشروع في محاولة الإجابة عن هذا السؤال، نلفت الانتباه هنا إلى أن أنظمة الرعاية الصحية المعمول بها حاليا تأسست ابتداء لمكافحة الأمراض المعدية والطواعين ذات الأسباب المعروفة (infectious/natural diseases) التي عصفت بالبشرية في الأزمنة السابقة وحصدت الملايين من الأرواح البشرية وغير البشرية، ومع هذا فقد حققت أنظمة الرعاية الصحية نجاحات مذهلة في مكافحة هذه الأمراض من خلال اكتشاف التطعيمات والمضادات الحيوية (vaccines/antibiotics)، ولأسباب أخرى لا يسع المقام لذكرها، ولكن مع التطور البشري وتغير أنماط الحياة العصرية التي صاحبت الثورة الصناعية برزت أمراض وأدواء ذات طبائع وأسباب غامضة مختلفة يصعب معها معرفة أسبابها الظاهرة، عرفت لاحقا بالأمراض المزمنة المعقدة (chronic/complex diseases, non-communicable diseases NCDs)، وهي المسؤولة حاليا عن 70% تقريبا من أسباب الوفيات في العالم سنويا. ومن هنا فالسؤال المطروح أعلاه عن الطب الشخصي وهل هو حقيقة أم خيال؟ معني ومستهدف بالأساس علاج هذه الأمراض المستعصية المزمنة التي تعصف بالناس كأمراض السرطان، والقلب والشرايين، والسكري وغيرها، والتي تشير تقارير منظمة الصحة العالمية إلى ازدياد مطّرد ومخيف في الإصابة بها بالإضافة لتكاليفها الاقتصادية الباهضة على الدول والمجتمعات.

وبالرجوع إلى طبيعة سؤال المقالة، فالإجابة بالضرورة ستتراوح بين إجابتين لا ثالث لهما، أي هناك من يرى بأن الطب الشخصي سيكون حقيقة وواقع ملموس يوما ما، وهناك من يرى بأنه خيال لن يتحقق أبدا – وكاتب المقالة يصطف مع هذا الرأي. ولكن يظل السؤال مفتوحا للنقاش والمدارسة العميقة قبل الإجابة عليه. وبجردة سريعة لواقع البحث العلمي في علوم الحياة والطب الحيوي، نجد أن الأدلة تشير إلى إن آراء العلماء والباحثين وصناع القرار واتجاهاتهم وما ينشر من أوراق علمية تدعم وتذهب نحو القناعة بأن الطب الشخصي حقيقة ستحقق يوما ما. ومن أدلة الفريق الذي يؤمن بأن "الطب الشخصي" حقيقة، وسيصبح واقعا ملموسا يوما ما، وأن أنظمة الرعاية الصحية تسير في هذا الاتجاه يمكن تلخيصها في النقاط التالية:

§  شروع بعض دول العالم ومنها العربية أيضا في دعم مشاريع التعرف على شفرة الجينيوم البشري لمواطنيها بضخ الأموال الضخمة لتحقيق هذا الهدف، وهذا يعكس نية صانع القرار وراسمي سياسات البحث والتطوير الابتكار في تلك الدول واقتناعهم بفكرة المشروع وأنه سيساعد في القضاء على الأمراض المزمنة التي تعاني منها شعوبهم.

§ اعتبار أن المشروع مازال في بداياته وان مخرجاته بالضرورة ستؤدي إلى الوصول إلى تحسين الرعاية الصحية التقليدية لتصبح مبنية على شخصنة العلاج (personalized medicine) .

§ الحمى التي صاحبت انطلاق المشروع مباشرة وذلك بعقد التحالفات والشروع في فك الشفرات الجينية للأمراض المزمنة المعقدة كالسرطان والسكري، والخرف وغيرها، ومن أبرز المبادرات والمشاريع البحثية في هذا الاتجاه "مشروع أطلس السرطان" (the cancer genome atlas)، و "مشروع الميكروبيوم البشري" (human microbiome project).

§ قناعة أغلب العلماء والباحثين وتماهيهم مع فكرة المشروع وانطلاقهم في كتابة المقترحات ودراسات الجدوى المختلفة والبحث عن دعم مادي لهذه المقترحات وترجمتها في مشاريع بحثية كبيرة.

§ اتساع وتضاعف الإنتاج المعرفي في حقول الطب الحيوي في العقود الثلاثة الأخيرة الذي يمكن ملاحظته من خلال زيادة عدد الأوراق العلمية المنشورة، بالإضافة لزيادة عدد أوعية ودور النشر للمجلات والدوريات والكتب وغيرها التي تهتم بمجالات وحقول الجينوم الطبي المتعددة.

§ زيادة عدد براءات الاختراع والمنتجات والأجهزة التقنية في مجال الطب الحيوي وعلوم الحياة.

§ انتعاش صناعة القنيات الحيوية، وصناعة الدواء وبروز ما يعرف بالعلاجات الموجهة التي تعتمد على الخارطة الجينية للمرض والمصاب (pharmacogenomics)، ومحاولة تصميم علاج مناسب للشخص/المريض المناسب 

§ بروز وتوفر بعض من قصص النجاح في علاج بعض الأمراض المستعصية التي كانت غير قابلة للعلاج في السابق، وذلك باستخدام العلاجات الموجهة (targeted therapy) أو باستخدام تقنيات الهندسة الوراثية مثال (gene editing/engineering technology)


وللإنصاف وقبل الشروع في إبداء الرأي المخالف لفكرة أن "الطب الشخصي" لن يكون حقيقة، وبأنه لن يكون إلا خيالا يداعب عقول العلماء والباحثين في مجال الطب الحيوي لا يمكن تحقيقه، فنقول ابتداء بأن توقيت السؤال جاء مبكرا جدا من حيث الحقبة الزمنية للمشروع. فالعقود الثلاثة التي مرت على المشروع لا تعتبر كافية للحكم عليه. فيجب مرور حقبة زمنية أطول للتحقق من نجاح المشروع أو فشله في تحقيق ما يعرف بالطب الشخصي. لكن يمكن الإشارة هنا إلى بعض النقاط والسمات الطبيعية لبيولوجيا الإنسان كتحديات وعقبات تقف في وجه تحقيق هكذا حلم كبير. 

§ نجح مشروع الجينوم بشكل أساسي في فهم الجزء المادي من تسلسل مادة DNA، والتعرف على بعض الجينات الناتجة عنه، لكنه لا يزال قاصرا في فهم الجانب الوظيفي والتفاعلات الديناميكة البينية بين المادة الجزيئية للبيولوجي المتمثلة في DNA, RNA, Protein

§ على الرغم من التقدم الملحوظ في التقنيات الحيوية، يظل هذا التقدم قاصرا في محاكاة التعقيد البيولوجي للإنسان.

§ الدراسات البحثية الطولية (longitudinal research studies) البيولوجية المُعْتمدة في تصميم أبحاث التجارب السريرية العشوائية (Randomized Clinical Trials (RCT)) كمعيار ذهبي (gold standard) في اعتماد العلاجات أو التدخلات الطبية الجديدة لا تعبّر ولا تحاكي أو حتى تقترب أصلا من الحركية المذهلة لبيولوجيا الإنسان

§ المشاريع التي تبحث في الجينوم لتحقيق الطب الشخصي تركز فقط على الجانب المادي من المعادلة، فبالنظر إلى ثلاثية "الجينوم، البيئة، سلوك ونمط حياة الإنسان" - فالمشروع ألقى بثقله في ضلع الجينوم بحثا ودراسة على أمل إيجاد شخصنة علاج للأمراض المزمنة، ولم يلتفت إلى البيئة المحيطة ونمط وسلوك حياة البشرية التي صاحبت الثورة الصناعية، ومن أهم الأضرار التي نتجت عن الثورة الصناعية التغير المناخي والاحتباس الحراري والتلوث البيئي وفي مقدمتها التلوث الضوئي (light pollution) وصناعة الغذاء وزراعة اللحوم (food industry and growing meat) من خلال الهندسة الوراثية و GMO، وكل هذه الأضرار وغيرها جعلت من البيئة - في تصوري - أكثر سُمّية ومُولّدة للأمراض.

§  كما أن مشروع الجينوم لم يعر اهتماما يذكر ولم يلتفت إلى دراسة نمط وسلوك وخيارات الإنسان اليومية وعلاقاته الاجتماعية المعقدة وتأثيراتها المباشرة على صحته ومرضه. فالدراسات الإنسانية والاجتماعية والسلوكية للأفراد والأمم لم تلق حظها في دواليب مشروع الجينوم البشري. فالمشروع يركز فقط ويوجه البوصلة نحو تشريح الجينوم البشري (anatomy of genome) ودراسة وظائفه الفسيولوجية (physiology of genome) دون الاهتمام بتأثير سلوك الإنسان ونمط حياته وعلاقاته الاجتماعية ومعتقداته الدينية، وثقافته وتعليمه على مستوى الأفراد والشعوب معا.

§ هناك خطأ في تسخير المشروع والانحراف به، وذلك بالتوجه به نحو مكافحة الأمراض وعلاجها عوضا عن توجيهه نحو تعزيز الصحة والعافية للأفراد والمجتمعات والمحافظة عليها. 

§ والنقطة الأهم والضاربة للمشروع هو الخلل البنيوي الذي يصاحب مناهج البحث والتطوير في علوم الطب الحيوي، وأنها قاصرة في سبر غور التعقيد البيولوجي للكائنات الحية وفي مقدمتها بيولوجيا الإنسان.

§ الهوة الواسعة بين التعليم الطبي الحديث ومجالات البحوث في مجال الطب الحيوي. فمناهج التعليم الطبي تفتقر إلى المعرفة العامة بمشروع الجينوم (رؤية – رسالة – أهداف)، فالوسط العلمي البحثي (في مجال علوم الحياة والطب الحيوي) في واد، ومناهج التعليم الطبي في واد آخر. وهذا انعكس بالضروة على افتقار الأطباء ومقدمي الرعاية الصحية للمعرفة والوعي الكافي بالمشروع وأهدافه وآليات تحقيقه.

§ مشروع الجينوم البشري لن يكون حلاً سحريًا أو أداة مؤثرة في طب القرن الحادي والعشرين.

§ التعقيد البيولوجي لبيولوجيا الإنسان يحدْ من مبدأ السببية للأمراض (biology complexity limits causality)

§ مشروع الجينوم البشري لم يضف شيئا تقريبا في القضاء على الأمراض المزمنة المعقدة (complex diseases)، التي تحصد أرواح ملايين الناس سنويا (non-communicable diseases, NCDs).

§    تعزيز العافية الشخصية للأفراد والحفاظ عليها لا يتطلب تماما فك شفرة الجينوم البشري أو التعرف عليها أصلا.

أختم وأقول بأن الإجابة عن هذا السؤال الفلسفي المهم – المبكر نوعا ما - تحتاج إلى المزيد من البحث والتأمل والدراسة من خلال عقد المؤتمرات والندوات العلمية بين العلماء والباحثين وصانعي القرار في العالم، وخصوصا في الدوائر المنتجة للمعرفة للوقوف على الحقيقة المبتغاة من طرح السؤال: كون أن "الطب الشخصي" حقيقة أم خيال؟.

هذا والله أعلم وأجل،،،

💓 1
Comments (4)
    • مادة دسمة ..فعلًا تحتاج المزيد من البحث والتأمل والتدقيق فيما يثار حول مسألة الطب الشخصي. اتفق معك بأن المشوار لازال في بدايته،. وأنه لايمكن النظر على العملية المرضية (أو فقدان العافية كما تفضل توصيفه) بتلك السهولة، بل كما تفضلت العملية أكثر تعقيدًا وضلوع العامل الوراثي قد يكون صغيراً أو كبيرًا وذلك يختلف من حالة إلى أخرى. وبالإضافة إلى ذلك فإن بعض العوائق التي قد تقف أمام الممارسين السريريين هو التكلفة الباهظة لبعض التحليلات الجينية والتي قد تكون العمود الفقري للطب الشخصي في بعض الأمراض، مايجعل طلب توفير تلك التحليلات مجرد ترف طبي وليست حاجة أساسية في العملية العلاجية..

      بارك الله فيك @عبدالباسط بوحميدة ..موضوع شيق وجدلي والحكم فيه مازال في علم الغيب

      • 1
      • شكرا د. فتحي على اهتمامك وتعليقك على المقال. الحقيقة طرح السؤال – في تصوري مبكر جدا جدا – ولكن موضوعة الطب الشخصي شاغله بالي دائما، وابحث فيها باستمرار. وفي هذا السياق احب ان الفت انتباهك وانتباه القراء الكرام انني بصدد كتابة مقال عن التحالف الذي انفرط وانتهى مبكرا بين شركة آي بي إم (IBM)، ومركز أم دي أندرسون (MD Anderson) لأبحاث السرطان. حيث أسست IBM  شركة اسمتها آي بي إم واتسون الصحية، وهي شركة فكرتها مبنية على الذكاء الاصطناعي لحل المشاكل الصحية ( IBM Watson Health: AI Healthcare Solutions)، وكان هدف التحالف بين الشركة ومركز اندرسون لابحاث السرطان هو مساعدة مركز اندرسون في تحقيق هدفه الاسمى وهو القضاء على السرطان لمرضاهم (cancer eradication)، وقد انفق مركز اندرسون اكثر من 63 مليون دولار لتحقيق هذا الهدف بالاستعانة بواطسون الصحي. لكن مركز اندرسون اوقف العقد لعدم جدوى المشروع، وعجزهم عن تحقيق الهدف. وقصة تأسيس IBM، لشركة واتسون الصحية جديرة بالاطلاع والقراءة. ولن ادخل كثيرا في التعريف بها،، لكن لقراءة المزيد عن واتسون الصحي يمكن النقر على الرابط التالي:

         https://www.ibm.com/sa-en/watson-health

        ولمعرفة المزيد عن اخفاق تحالف واتسون – أندرسون، يمكن النقر على الرابط التالي:

        https://www.forbes.com/sites/matthewherper/2017/02/19/md-anderson-benches-ibm-watson-in-setback-for-artificial-intelligence-in-medicine/?sh=780849583774

        كما انني لا أخفيك بأن تعريف "الطب الشخصي" الذي توافقت عليه أغلب الأوساط العلمية البحثية في مجال الطب الحيوي، والذي اشرنا إليه في المقالة وهو:  The right treatment, to the right person, at the right time, every time، هو – من وجهة نظري - تعريف خادع (deceptive) ولا يمكن تحقيقه، لأنه في اعتقادي بأن تصل إلى هذه المرحلة أو الدرجة من العلاج يجب ان تحوز العلم الإلهي وحكمته وتقديره (God’s knowledge) ، وهذا شئ محال الوصول إليه. على العموم الموضوع يطول للنقاش.

        على كل، اختم تعليقي بجملة واحدة، وهي قناعتي الكاملة بأن منهجية مطاردة الأمراض منهجية مكلفة وليست ذات جدوى، مقارنة بمنهجية تعزيز العافية للأفراد والمجتمعات والحفاظ عليها. وهذا موضوع آخر.

        • 💓 1
        • الله يفتح عليك دكتور عبدالباسط. موضوع شيق. هل تعتقد بأن التحديات التي تمر بها فكرة توظيف الجينوم لخدمة الطب الشخصي تمثل مرحلة من حفرة الموت كما وصفت في مقال سابق لك، أي أنه بعد حين قد تتبلور الفكرة وتنضج بعد تجاوز تلك الحفرة أم أن الفكرة ولدت ميتة أساسًا؟

          • في حقيقة الأمر، سؤالك يا دكتور فتحي كبير جدا وعميق، ويحتاج إلى عقد ندوات مكثفة للمهتمين والباحثين في مجال الجينوم والطب الشخصي للإجابة عليه أو على الأقل التفكير بهذا البعد الاستراتيجي. لا أخفيك بأن سؤالك المتميز هذا فتح لي آفاق رحبة وعميقة في التفكير في المسألة. في الحقيقة إن فكرة مشروع الجينوم ابتداء كانت سؤالا فضوليا بسيطا ومباشرا عن مدى ارتباط تأثير الإشعاع النووي في مادة الـ DNA كما ذكرنا سابقا، وهل الإشعاع النووي سببا في نشوء وتكون طفرات جينية في الكائن الحي. هذا كان أصل السؤال الفضولي. لكن انفتحت أبوابا من العلوم المترابطة والمتداخلة لم تخطر على بال من طرح السؤال، وانبثقت عن المشروع كما قلنا مجالات علمية وأبعاد أخرى لم تكن في الحسبان. بلا شك، هناك نجاحات تذكر لمشروع الجينوم ومشروع التعرف على المادة الوراثية لا يمكن إنكارها أو غض الطرف عنها. لكن التعقيد البيولوجي للكائنات الحية غير المتصور جعلهم يدخلون في تحد غير مسبوق معها. وأنا شخصيا بوصلة اهتمامي تتجه نحو الجزء الخاص بالأمراض المزمنة المعقدة (NCDs)، وما جدوى مشروع الجينوم البشري والطب الشخصي في أن يلعب دورا في القضاء عليها،، هذا هو مربط الفرس بالنسبة لي. ولا أخفيك أن المشروع من هذه الزاوية (أي القضاء على الأمراض المزمنة المعقدة) لن يكون ذا جدوى لعدة أسباب منها أن مشكلة هذه الأمراض لا تكمن بالضرورة في الجينوم، بل الجينوم في الواقع هو ضحية لهذه البيئات الممرضة (كالإشعاع النووي مثلا- أصل المبحث العلمي)،، فبالإضافة للإشعاع النووي، هناك دوائر أخرى تلعب دورا مهما في نشوء هذه الأمراض واستفحالها وانتشارها بهذا الكم الهائل المخيف على حسب تقديرات وتقارير منظمة الصحة العالمية المتوالية. هذه الدوائر من خارج مادة الجينوم – في رأي المتواضع - لم يعر لها المؤمنون بالمشروع الاهتمام الكافي، بل انكبوا وراء تشريح تسلسل مادة الـ DNA، على أمل إيجاد حلول لهذه الأمراض داخل مادة الجينوم. ولقد ذكرنا في مقال الثورات الثلاث ما لها وما عليها الآثار السلبية للثورة الصناعية والرقمية تحديدا، وكيف رسخت هذه الثورات لسياقات كونية بيئية تنحو بالناس نحو المرض أكثر من توجيهه نحو العافية، بمعنى سياقات ممرضة (pathogenic). وبالعودة إلى سؤالك عن حفرة الموت، وهل المشروع سيتخطاها أم أنه سيقع فريسة تلتهمه، فأقول بأن مشروع الجينوم وأدواته في الوصول إلى الطب الشخصي سيدفن في مقبرة الموت، ولن يكون له دور يذكر في القضاء أو على الأقل في التقليل من انتشار الأمراض المزمنة المعقدة وإصابة الناس بها ما دامت السياقات الكونية البيئية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية هي مولدة للأمراض لا مرسخة للعافية، ولا زالت هذه السياقات الكونية غير الصحية في تصاعد مطرد. نحن نريد صك وترسيخ مصطلح توليد العافية (Afiatogenesis)، وتغيير ما يعرف اليوم بسياقات الـ (pathogenesis). ولكي نوجه البوصلة نحو توليد العافية عوضا عن توليد الأمراض،، علينا أن نقوم بثورة علمية جذرية في مناهج التعليم والمعرفة والبحث العلمي في جميع مجالات علوم الحياة والطب الحيوي مضافا إليها العلوم الإنسانية والاجتماعية والأخلاقية والدينية والاقتصادية، والبيئية وغيرها. أنهى وأقول لك يا دكتور فتحي بأن حوارنا هذا عن جدوى الجينوم والطب الشخصي في القضاء على الأمراض المزمنة سيكون له شأن يوما ما في الأوساط العلمية،،، وما ذلك على الله بعزيز. وللحديث بقية،،،، تحياتي يا صديقي.

            • 1
          Login or Join to comment.