Feed Item

هذا النّداء موجّه إلى كل من يهمه الأمر من باحثين، وعلماء رؤيويين، ومخططين استراتيجيين، وصناع قرار في مجالات علوم الحياة بالعموم، ومجال أبحاث علوم الطب الحيوي بالخصوص، كما أنه موجّه أيضا إلى شركات التقنيات الحيوية، وشركات الأدوية، ومصانع الأغذية حول العالم، وكذلك إلى المهتمين بالحفاظ على البيئة الكونية. أقول لهم "من فضلكم أنقذوا الجينوم"، والمقصود بالجينوم هنا مادة الـ DNA، المسؤولة عن الخارطة الجينية الوراثية للكائن الحي (إنسان، حيوان، نبات). وهي دعوة لرفع الأيدي البشرية عن التلاعب المباشر وغير المباشر بهذه المادة الخام – أصل الخلق -. فقد تعرضنا في مقالة سابقة تحت عنوان "من صناعة الغذاء إلى زراعة اللحوم: إلى أين نحن ذاهبون؟" إلى السّياق الكوني البيئي العام الذي يتواجد، ويتعايش في داخله، ويتفاعل معه الكائنات الحية (إنسان، حيوان، نبات)، ذات الطبيعة النشوئية الواحدة المتلخصة في مشاركتها جميعا لمادة الحمض النووي (DNA)، والذي أصبح يعرف اليوم بمصطلح "الجينوم".

وقلنا بأن السّياق البيئي العالمي تأثر تأثرا مباشرا وواضحا بتوابع الثورات الثلاث (الزراعية – الصناعية - الرقمية) وبالأخص التأثر الكبير والمذهل من الثورة الصناعية التي غيرت مفاهيم كثيرة كانت راسخة منذ قرون في العقل والمخيال البشري. وضربنا أمثلة واضحة عن المفهوم الزراعي الذي تغير من طرق تقليدية راسخة تعتمد على (التربة، الماء) لاستزراع حبوب النباتات العضوية المختلفة (خضراوات، فواكه) إلى زراعة وبستنة بدون تربة (soilless). كما تطرق المقال إلى التلاعب بهذه الحبوب العضوية وإعادة برمجتها واللعب في مادة الـ DNA الخاص بها، من خلال تقنية الهندسة الوراثية للتحكّم في لون وطعم وحجم وشكل النباتات بالعموم، وكذلك إمكانية إعادة برمجتها لمقاومة البيئات الصعبة مثل الجفاف والملوحة وغيرها. كما تطرقت المقالة أيضا إلى تغير المفهوم التقليدي لآلية توفير اللحوم الحيوانية من خلال تربيتها ورعايتها ثم ذبحها للحصول على لحومها وشحومها وجلودها للاستفادة منها في المأكل والملبس، لتتحول حديثا إلى آلية أخرى – لم تعهدها البشرية من قبل - من خلال تطبيقات الهندسة الوراثية ليتم زراعة اللحوم في أطباق المختبرات (petri dishes) البحثية العلمية. ولعلّه من المناسب هنا، الإشارة إلى سماح إدارة الغذاء والدواء الأمريكية رسميا ببيع اللحوم المصنعة في المختبرات عوضا عن اللحوم الحيوانية وطرحها في الأسواق والمطاعم. كما أشرنا أيضا إلى التقدم الهائل – والخطير – في علوم الطب الحيوي من خلال تقنية كريسبر-كاس9 لتصحيح الطفرات الجينية لجينوم الكائنات الحية، وكيف أصبح للبحث العلمي الآن القدرة والاستطاعة على التلاعب بمادة الـ DNA للإنسان نفسه، وبروز مصطلح أطفال كريسبر، وخطورة أن يذهب القراصنة البيولوجيون بالإنسانية نحو المجهول.

أعود وأقول، بأن التوصيات الحثيثة - منذ انطلاق مشروع الجينوم البشري - من قبل المجتمع البحثي العلمي العالمي في علوم الحياة والطب الحيوي هي الدفع نحو دراسة الجينوم وضخ الأموال الطائلة لفك ألغازه على اعتبار أن حلول الأمراض وعلاجها يقع بالضرورة داخل إطار الجينوم. ففي العقود الثلاثة الأخيرة تم التركيز وتكثيف الأبحاث على الجينوم دون الاهتمام الكافي بدراسة العوامل الخارجة عنه (مثل البيئة التي يتواجد فيها الجينوم، والسلوك اليومي لصاحب الجينوم). بمعنى أن الجينوم في حالته الصحية الطبيعية لابد له من بيئة صحية يعيش فيها، وسلوك يومي صحي لصاحب الجينوم نفسه. وبناء عليه، فالمحاولات البحثية العلمية المكثفة لإيجاد حلول سحرية - للأمراض التي تصيب الناس - من داخل منظومة الجينوم هي في الحقيقة محاولات قاصرة، مكلّفة جدا، وليست ذات جدوى. فالخلل فيها منهجي بالأساس. ففي هذه الحالة، فالجينوم يعتبر ضحية، وليس منقذا أو حلا لعلاج الأمراض المختلفة. فالطّفرات التي تصيب الجينوم لتتمظهر لاحقا في صورة أمراض مختلفة تصيب الإنسان، هي في الحقيقة – أي الطّفرات الجينية – نتيجة وليست سببا في نشوء هذه الأمراض. فالتوجه العالمي الحالي الداعم لمشاريع فك شفرة الجينوم والتعرف عليها في مجتمعات الدول الغربية، وحتى بعض الدول العربية مثل (قطر جينوم ،، سعودي جينوم،، وغيرها) وقناعة المجتمع العلمي وصانعي القرار في تلك الدول للدفع نحو تمكين هكذا نوع من البحث العلمي للتعرف على الطفرات الجينية في شعوبهم وتشخيصها كمسبب للأمراض هي في رأيي محاولات مكلّفة وغير ذات جدوى لأسباب عدة ليس هنا محل ذكرها، لكن على رأسها بالأساس التعقيد غير المتصّور وغير المتخيّل لبيولوجيا الكائن الحي، وفي مقدمتها بيولوجيا الإنسان. 

فالدعاوى الملحّة من قبل العلماء والباحثين وصناع القرار لمعرفة جينوم الشعوب لتمكين الرعاية الصحية وتحويلها من رعاية صحية تقليدية تطبق على الجميع إلى رعاية صحية مبنية على الطب الشخصي أو الطب الدقيق هي في الحقيقة قفزة في الفراغ، وخصوصا في حالات علاج الأمراض المزمنة المنتشرة كالسرطان وأمراض القلب والخرف والأمراض المزمنة الأخرى. كما يمكن أن نذهب أبعد من هذا ونقول: بأن مصطلح "الطب الشخصي" هو في الحقيقة مصطلح خادع في ذاته (deceptive term). فقد اتفق الوسط العلمي على تعريف الطب الشخصي على أنه "العلاج المناسب، للشخص المناسب، في الوقت المناسب، في كل وقت وحين" وهذه الحالة الطوباوية الحالمة السُّوريالية السّرابية لا يمكن تحقيقها، لأنه في اعتقادي أن أي منظومة طبية تسعى للوصول إلى هذه المرحلة أو الدرجة من العلاج يجب أن تحوز العلم الإلهي وحكمته وتقديره (God’s knowledge)، وهذا بالتأكد شيء محال الوصول إليه. 

كما أن البصمة/الخريطة الوراثية (بصمة الجينوم) لكل شخص تختلف عن أي شخص آخر، ونظرا لاختلافها فلا يمكن أن تتطابق معه، ومن ثم لا يمكن اتخاذها كعينة ضابطة (control sample) لأي جينوم آخر. كما يجب التنويه هنا، إلى أن أصل فكرة مشروع الجينوم البشري الذي بدأ العمل فيه بشهر أكتوبر 1990، وأعلن عن الانتهاء من أغلبه في إبريل عام 2003 هو في الحقيقة ناتج عن السؤال الفضولي الذي طرحته وزارة الطاقة الأمريكية عن مدى العلاقة بين التعرض للإشعاع الذّرّي ونشوء الطفرات الجينية في مادة الجينوم للكائن الحي. وقد أثبتت الدراسات الرصينة العلاقة المباشرة بين التعرض للإشعاع الذّرّي وزيادة الطفرات الجينية لمادة الجينوم. وتأسيسا على ما سبق، فبدلا من الانشغال وصرف الأموال الطائلة للبحث في الجينوم والتعرف على الطفرات الجينية المصاب بها يجب توفير بيئة صالحة صحية ليتعايش فيها ومعها الجينوم. ففي رأيي، حتى الأمراض الوراثية التي يصاب بها الانسان، ويولد بها هي في الحقيقة منقولة ومتوارثة من جينومات لآباء وأمهات تعايشوا في بيئات وسلوكيات غير صحيّة عرّضت مادة الجينوم لديهم لأضرار وطفرات مرضية وُرّثت لأبنائهم وأحفادهم لاحقا. وقد أشار النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى في أحاديث صحيحة مثل قوله: "تخيروا لنفطكم"، وحديث "تنكح المرأة لأربع"، وحديث "من جاءكم من ترضون دينه وخلقه". ومن هنا يمكن استنباط بأنه لإيجاد جينوم متعاف يجب أن نبحث عن والدين متعافيين جينوميا، بيئيا، سلوكيا وخلوقيا. لكن للأسف الشديد، البيئة الكونية المحيطة بالكائنات الحية اليوم، وخصوصا بعد الثورة الصناعية أصبحت – بلا شك - مولدة للأمراض بصورة لم تعرف في أسلافنا. كما أن سلوك الإنسان وعلاقاته الاجتماعية في زمننا المعاصر غير مسددة في غالبها فهي – في رأيي - أقرب إلى الانحراف منه إلى الاستقامة.

فالدراسات العلمية تشير إلى أن السّياق والمحيط البيئي سواء (صحي – غير صحي) الذي يتعايش فيه الناس في حقبة زمنية ما، له تأثير مباشر عن مآلات الأحفاد والأجيال التالية. وأكبر مثال على ذلك الدراسات العلمية المنشورة عن تأثير المجاعة التي تعرضت لها السّويد في ستينات القرن التاسع عشر (Swedish famine of 1867-1899)، وكيف نتج عنها خروج جيل من الأحفاد الضعفاء المصابين بأمراض القلب - للجدّات من جهة الأب اللّاتي تعرضن للمجاعة- مقارنة بالأسلاف الذين لم يتعرضوا للمجاعة. فالذي يُتوارث من جيل إلى آخر حقيقة ليس فقط مادة الجينوم وحدها – كما يتبادر إلى أذهان الكثير منا - بل حتى السياقات الاجتماعية والبيئية والثقافية والسلوكية وغيرها. وقد أشار القرآن الكريم مقرا هذا المعنى في قوله تعالى على لسان موسى -عليه السلام- مخبرا عن قومه "إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا"، وهذا يؤكد توارث الثقافات والعقائد بين الأجيال.

وعودا على مادة الجينوم، يجب التنويه هنا إلى ان مادة الجينوم تملك خاصية مهمة وهي المرونة العالية (plasticity) في تحمل ومقاومة الضغوط (burden resistant) الخارجية المختلفة سواء بيئية أو سلوكية. لكن تظل هذه المرونة والصلابة للجينوم في تحمل التغيرات المختلفة ذات مدى محدود – مهما اتسعت هذه المرونة – لينتج عنها إجهاد وتغييرات في مادة الجينوم في حالة استمرار هذه الضغوط لفترات زمنية طويلة في حياة الإنسان لتتمظهر في صورة طفرات واختلالات جينية تساهم أو تتمظهر لاحقا في صورة أمراض مزمنة. 

فإذا درسنا المحيط البيئي الذي يلف جينوم الإنسان ويحيط به منذ قرنين من الزمان تقريبا، نجد هناك صور عديدة ومظاهر متنوعة للبيئة الممرضة (pathogenic environment) التي تجهده وتضغط عليه، بدء من التيار الكهربائي في صورة التلوث الضوئي (light pollution) وسلبياته في تغيير حياة الناس وضرب إيقاع الساعة البيولوجية له (circadian rhythm)، من خلال السهر المفرط وقلة النوم، مرورا بالتلوث البيئي وانبعاث الكربون والاحتباس الحراري وغيرها من العوامل الأخرى، كصناعة الطعام، وزراعة اللحوم، والهندسة الوراثية والتعديل الجيني في الإنتاج الحيواني والزراعي، وانتهاء بالعلاقات الاجتماعية المضطربة والسلوكيات الفردية الخاطئة. إذا الجينوم متواجد في بيئة مسمومة مولدة للأمراض (pathogenic)، وعليه فالجينوم في حقيقة الأمر هو ضحية لما يدور حوله، وليس مسؤولا مباشرا عن الأمراض وتمظهرها. فالبحث عن الحلول لعلاج الأمراض من داخل الجينوم هي محاولات مكلّفة غير صائبة.

والعجيب أن القرآن الكريم لفت إلى مثل هذا المعنى في مدى وعظم تأثير البيئة المحيطة بالإنسان عليه في قوله تعالى: "يَوْماً يَجْعَلُ الوَلَدانِ شِيباً"، واليوم هنا مقصود به يوم القيامة، والولدان هم الأطفال الصغار. يعني يوم القيامة، فيه تشيب الولدان من شدّة هوله وكربه، أي تشيب الصغار من كرب ذلك اليوم. ومن هنا يمكننا أن نستنبط بأن البيئة لها تأثير قوي وجلي على جينوم المواليد؛ مما يؤدي إلى انتقالهم من الطفولة إلى الشيخوخة (شيبا) في الوقت نفسه، وهذا لا يتم إلا في سياق يوم القيامة المفزع. فإذا أسقطنا هذا النموذج من الأهوال والفزع والخوف في الحياة الدنيا، وبالتأكيد هو بدرجات وجرعات أقل بكثير، فنستخلص أن الأهوال والمفزعات والخوف والكرب والحزن والقلق الشديد في الحياة الدنيا – وهو لا يقاس ولا يتماثل أبدا مع هول يوم القيامة وفزعه- تؤدي بالضرورة إلى شيخوخة مبكرة، والشيخوخة في حد ذاتها عامل إنذار للإصابة بالأمراض المزمنة المختلفة. 

أخلص وأقول، بأنه يجب ان توجّه جهود البحث العلمي نحو إيجاد طرائق أخرى من خارج الجينوم يتم تعديلها وتخفيف وطأتها وحدتها على الجنيوم لكي تعود العلاقة الصحية (healthy relationship) بين الجينوم وبيئته وسلوك الكائن (الإنسان) الذي يتواجد بداخله الجينوم. اعتقد ان النظر من هذه الزاوية يعطينا بدائل أكثر نجاعة في تقليل أو منع غلواء الأمراض التي تصيب الناس بصورة مخيفة، ونتجه نحو ترسيخ مفهوم العافية والمحافظة على ديمومتها في الأفراد والمجتمعات. فالأمراض لا تعالج عن طريق استعمال الأدوية فقط. فالصحة والعافية والمحافظة عليها هي نتاج ما نأكله، وما نشربه، وما نتنفسه، وما نفعله، وما نفكر فيه، وما نؤمن به، ونتاج تواصلنا الاجتماعي، ونتاج نومنا أيضا، فالعافية هي نتاج كل هذه الأشياء مجتمعة دون تقصير أو تفريط في أحدها. إذا هي علاقة صحية ومتناغمة مع هذه العوامل مجتمعة.

واختم بالقول المنسوب لبشّار بن بُرد:

مَتى يَبلُغ البُنيانُ يَوماً تَمامَه........... اِذا كُنت تَبنيهِ وَغَيرك يَهدِم. 

  • 💓 3
Comments
    • كالعادة إدراج رائع أخي عبدالباسط. وبطبيعة الحال يطرح مراجعات وتساؤلات جديرة بالتوقف عندها والتأمل فيها، أذ أنها تتناول ماصارت تعرف بمسلمات علمية، وفي هذا الصدد لدي سؤال أتمنى أن أسمع الإجابة عليه، وهو لك أن تضرب مثلًا لسلوك إنساني مكتسب (إيجابي أو سلبي) تم تحميله على الجينوم بشكل تلقائي (إي تغيري الشفرة الوراثية لدرجة يمكن التحقق منها بشكل دقيق) ومن ثم تم توارثها للجيل التالي؟

      • شكراً أخي فتحي على التعليق والتساؤل: في الحقيقة تساؤلك ليس من السهولة بمكان. أنت تسأل عن سلوك (إيجابي – سلبي) له تأثير مباشر على الجينوم بعد التحقّق من علاقة هذا السلوك بالطفرة التي اكتسبها جينوم صاحب السلوك، ثم تتبع توارث هذه الطفرة في الجيل التالي. الموضوع أعقد بكثير مما نتصوّر ونتخيّل، وليس بهذه البساطة. فكما ذكرنا في مقالة سابقة بأن التعقيد يحد من السّببية (complexity limits causality). على حسب علمي، لم أطلع على دراسة علمية، ولا يوجد مثل هذه الدراسة التي استهدفت هذا السؤال، لأن بصراحة إجراء دراسة علمية للإجابة على السؤال الذي طرحته أنت يذهب بنا إلى تشعّبات وتحديات كثيرة ليس لها حد، ويتطلب دراسة مستقبلية لمدد زمنية طويلة جدا (prospective study). أول هذه التحديات هو ما هو السلوك الإيجابي أو السلبي الذي يقع عليه الاختيار للدراسة، بمعنى هل السلوك (إيجابي – سلبي) الذي يخضع للدراسة هو سلوك عملي أم سلوك قلبي أم سلوك أخلاقي. فالسلوك العملي مثل الرياضة، أو طريقة الأكل، أو النوم إلخ،، والسلوك القلبي مثل الحسد والحقد والبغض (سلوكيات سلبية)، أو سلوكيات قلبية إيجابية مثل (سلامة الصدر، وغيرها) أو سلوكيات أخلاقية مثل (الكذب، الصدق، النزاهة، الأمانة، الخيانة، الغضب، الحلم البخل، الكرم، الإيمان، الكفر وهكذا دواليك). ضرب هذه الأمثلة السلوكية المتنوعة غير المحددة يحد من الدراسة. فأي من هذه السلوكيات علينا اختياره واعتماده للدراسة دون النظر إلى العوامل السلوكية الأخرى. بمعنى لا يمكن أن نقوم بدراسة اختزالية تختزل كل هذه الأشياء في سلوك واحد ندرس تأثيره المنفرد المباشر على الجينوم، ونقول هو من سبب الطفرة في جينوم صاحب السلوك. حتى لو سلّمنا بعمل دراسة نوعية مثل هذه، واتفقنا على اختيار سلوك واحد وتتبع تأثيره على الجينوم، فهذا يتطلب منّا اختيار دراسة الجينوم في مرحلة مبكرة من عمر العينة التي تخضع للدراسة، ثم تتبع صاحب الجينوم المحافظ على هذا السلوك (إيجابي – سلبي) ودراسة جينومه في مدى زمني طويل كأن يكون الفرق بين دراسة الجينوم في الطفولة ثم إخضاع الجينوم نفسه بعد عمر طويل بعد التأكد من المحافظة على السلوك الخاضع للدراسة، ثم بعد ذلك يتم دراسة جينوم الأولاد أو الأحفاد ومقارنتها بجينوم الأب أو الجد (العينة الخاضعة للدراسة). واذهب أبعد من هذا ، وأقول حتى تأثير هذا السلوك (عملي، قلبي، أخلاقي، سلبيا كان أو إيجابيا) على الجينوم إذا تثبت على شخص ما،  ليس بالضرورة يكون صحيحا ويؤثر بنفس الدرجة على شخص آخر. هذا تصور بسيط لرسم خارطة مبسّطة لكيفية إجراء هكذا دراسة علمية تبحث عن تأثير السلوك في الجينوم؛ وبالتالي توارث الطفرات التي قد يتسبب فيها هذا السلوك. ثم أحب أن ألفت الانتباه هنا إلى أن العلاقة المباشرة بين سلوك الناس واختياراتهم أو تأثير البيئة المحيطة يتم من خلال نافذة أو ميكانيكية (Epigenetics/epigenomics)، ما فوق الجينوم، وهذا موضوع آخر لعلي أفرد له مقالة خاصة به. ع العموم الموضوع معقد جدا، ولعلنا نفتح فيه نقاشاً من خلال عقد ندوة على الزووم نستضيف فيه بعض الباحثين والعلماء المهتمين بهكذا مواضيع. كما لا يفوتني أن أقول بأن العوامل البيئية مثل التعرض للإشعاع الذّرّي، أو مثلا التعرض للمواد الكيماوية (من خلال الأكل، الشرب، أو حتى الاستنشاق، أو الاحتكاك وملاسمة الجلد) يكون لها تأثير مباشر على الخلايا والانسجة، وخصوصا مادة الـ DNA، بينما السلوكيات والاختيارات الحياتية بالعموم مدارها بعيد بعض الشيء عن مادة الـ DNA، وتأثيرها وتحكمها على الجينوم يكون كما قلنا من خلال نافذة ما فوق الجينوم. بصراحة الموضوع معقد جدا جدا جدا. إن شاء الله أكون اجبت ولو باقتضاب عن سؤالك أخي الحبيب. تحياتي،،

        • 💓 2
      • ماشاء الله عليك دائماً مبدع وتفكر خارج الصندوق لتضيف اضافات قيمة اثابك الله كل خير

        • 💓 1
        • جزاك الله خيرا حبيبنا ادريس،،، مرورك يسعدني،، رب ينفع بيك، ويجعلك كالغيث النافع.

          • 1
          • مقال رائع ومشوق بارك الله فيك. تعليقاً على سؤال فتحي هل ممكن دراسة هذه السلوكيات(ايجابية كانت ام سلبية ام حتى حيادية) بطريقة رجعية (retrospective ) لجعلها عملية اكثر خصوصاً اذا كان الجد والاب والحفيد متواجدون في الزمن ذاته؟ لأنه كثيراً من الاوقات نلاحظ ان هناك سلوكيات متشابهة ونتسائل هل هي وراثية ام ماذا وهذه الملاحظة نجدها كثيراً من الاحيان حتى ولو تربى الحفيد بعيداً (اقصد بعد المسافات بالتالي ليست مكتسبة بالتقليد) عن جده او جد والده؟

            • 1
            • شكرا د. نعيمة على إعادة طرح سؤال د. فتحي بأن تعمل الدراسة بطريقة رجعية. في تصوري من ناحية نظرية ممكن عمل مثل هذه الدراسة البحثية، لكن يجب أن نشير هنا إلى أن تشريح الجينوم (Anatomy of genome) ، وهو المرحلة الأولى من مشروع الجينوم البشري الذي انتهى منه فعليا – بمعنى تشريح كامل الجينوم (whole genome) متضمنا exomes and introns، - بتاريخ أبريل 2022، والمرحلة الثانية والتي مازالت جارية إلى هذه اللحظة، هي معرفة وظائف الجينوم (physiology of genome)، وهذا الهدف لم ينته العمل به إلى الآن. فمرحلة معرفة وظائف الجينات (الجينوم) هي المرحلة الأصعب والأعقد؛ لأنها تهدف إلى معرفة وظائف كل جين في العمليات البنائية والأيضية المختلفة، وكذلك الاتصالات الشبكية البينية بين الجينات (genes networking and signalling) وغيرها على مستويات الجينوم وفوق الجينوم (epigenome) إلخ. ولمعرفة وظائف كل جين على انفراد لا بد من الاستعانة بجينومات الكائنات الحية الأخرى (قرود، كلاب، فئران، الذبابة المنزلية،،، إلخ) في مشاريع تعرف بدراسات مقارنة الجينومات (comparative genomics studies) ، وهذه الجينومات الأخرى ليست متطابقة مع الجينوم البشري، فهي من الناحية العملية قاصرة وليست كافية لمعرفة الخرائط الوظيفية للجينوم البشري. ولكن ودون الخوض في التفاصيل، فإلى الآن تم التعرف على حوالي 60% من وظائف الجينات البشرية، وهذه تسمي protein coding genes، وهي تتموضع في مناطق الـ exomes فقط،، وتشكل الـ exomes وحدها ما نسبته 2% من كامل الجينوم، تصوري معي النسبة الضئيلة التي تشكلها مناطق الـ exomes من كامل الجينوم البشري. الآن يأتي السؤال عن علاقة الجينات بالسلوك الإنساني وهل هو يورث أم لا ؟؟،، في تقديري أن ما يورث هو الجانب المادي من الجينوم بمعنى الصفات المادية كالطول ولون العين والشعر، ومع هذا فليس بالضرورة أن تورث صفات الآباء والأمهات،، لكن يمكن ان تكون قادمة من سلالات الأجداد الذين لم يتعايشوا مرحلة الأحفاد واحفاد الأحفاد. وكذلك هي الحالة بالنسبة للجانب السلوكي للإنسان و تأثير البيئة عليه، لكن ميكانيزمات وآليات التوريث للسلوك الإنساني وتأثير البيئة يكون من خلال نافذة epigenome ، مع ملاحظة أن الجينوم ثابت، وما فوق الجينوم (epigenome) متغير وديناميكي على مدار اللحظة الزمنية. لكن سؤالي إليك، وإلى الدكتور فتحي، ما جدوى معرفة الجينات المسؤولة عن السلوك الإنساني. فالسلوك الإنساني هو نتيجة لتراكم معرفي وثقافي واجتماعي وأخلاقي تربوي أكثر منه تراكم وراثي جينومي. ففي الغالب نجد تشابهاً في الصفات المادية للإنسان أكثر منها من التشابه السلوكي، حتى وإن وجد. فالسلوك الإنساني وخياراته اليومية هي ليست قدرية (مسيّرة) كقدرية طوله وقصره ولون عينية أو شعره أو غيرها من الصفات المادية (phenotype)،، فهذه صفات قدرية جبرية ليس لنا فيها خيار (الإنسان هنا مسيّر فيها وليس مُخيّراً)، أما السلوك الإنساني وخياراته اليومية، فهي تؤخذ وتقرر نتيجة للتراكم المعرفي التربوي الذي يكتسبه الإنسان خلال فترة حياته، وهذه الاختيارات السلوكية، يكون الإنسان مخير فيها وليس مسيّرا أو مجبرا عليها، إلا إذا استبعدنا - طبعا - الخيارات التي تؤخذ تحت القوة القاهرة. ففي تصوري أن دراسة الجينوم لمعرفة علاقته بالسلوك والاختيار الإنساني لن تكون ذات فائدة عظيمة، وليست ذات جدوى، هذا والله أعلم. على العموم الموضوع معقد وفلسفي ويحتاج إلى تأملات ودراسات عميقة أحسب أن الهدي الإسلامي من خلال القرآن والسنة فيه الكثير من الإجابات والإلماحات في هذا الصدد. فقط علينا أن نعمق البحث ونخرح بنتائج تفيد البشرية والكون اجمع. تحياتي لك.

              • 💓 2
              • بارك الله فيك دكتور على هذا الرد الوافي والمفصل، اقل شيء بالنسبة لي، حيث ان موضوع علم الوراثة والجينات من وجهة نظري علم مبهر ومعقد وبصراحة اجد نفسي احتاج الى تركيز كبير كي افهم ما اقرأه فهو يشكل تحدي كبير بالنسبة إلي حتى انني بعد ما سألت السؤال اعلاه قلت في نفسي ارجو ان اكون فهمت المقال وسألت سؤال متعلق بالموضوع ولم اغرد بعيدًا.😬.

                زادك الله علماً .

                • هههه، لا بالعكس سؤالك كان وجيها وفي صلب الموضوع، وأبدا لم تغردي بعيدا، بل هو تغريد في ساحات التعقيد البيولوجي للجينوم. الحقيقة المعلومات الضخمة التي خرجت ومازالت تخرج من عباءة مشروع الجينوم البشري فوق مما يتصور أصحاب المشروع نفسه. فهي معلومات معقدة وديناميكية تعكس التعقيد البيولوجي للكائنات الحية وفي مقدمتها بالطبع هذا المخلوق العجيب المسمّى "إنسان"، وهذا يؤكد قوله تعالى - جل في علاه "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53). لا إله إلا هو، سبحانه.


                • سؤال اخر دكتور عبدالباسط.

                  لدينا هنا في محلات الخضار والفواكه قسم يبيع ال Organic produce/ food and the other will sell the GMO produce /food

                  هل حضرتك من انصار الابتعاد عن الثاني اقصد المحور جينيًا والشراء من "الطبيعي" ام لا فرق من ناحية صحية. لأنه تجد الكثير من المناظرات والكلام المكتوب في هذا الصدد ونحن غالباً ما نقف محتارين امام هذا الخيار.

                  هل من نصيحة؟

                  • بكل تأكيد أنا لست مع الخضراوات والفواكه المعدّلة جينيّا، بل قولا واحدا مع النباتات والمزروعات الطبيعية ذات البذور العضوية الأصلية. وللأسف مع غزو البذور المعدلة جينيا وانتشارها، أصبحت البذور الطبيعية العضوية عزيزة في الأسواق وغالية الثمن مقارنة بالمعدلة جينيا. بل أمشى معك أبعد من هذا، وأتساءل عن مدى فاعلية وفوائد أكل الفواكه والخضراوات في غير مواسمها السنوية كأكل الحمضيات في الصيف، والعنب والدلاع والبطيخ مثلا في الشتاء. بل في رأي على كل منطقة، مدينة، ولاية، أو بلد أن تأكل من الخضراوات والفواكه التي تنتجها هي لا ان تستوردها من مناطق وبلدان لا تشاركها نفس البيئة والمناخ. وهنا أتساءل عن تواجد التمور السعودية والتونسية مثلا في كندا،، ووجود الفراولة الفنلندية في السعودية. هذا موضوع آخر جدير بالدراسة والبحث. فمادة الجينوم للإنسان والنبات والحيوان يجب ان تخضع كلاهما لنفس البيئة والظروف المناخية والموسمية، وهذا في الحقيقة بحث عظيم لم أجد فيه _ على حسب علمي _ دراسات رصينة تشير لهذا الموضوع. على العموم مواضيع متداخلة ومعقدة أكبر مما نتصور،،، ومع هذا لم نقدر الله حق قدره،، تأكيدا لقوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}.

                    • 1
                    • بارك الله فيك على الرد.

                    Login or Join to comment.